الفن وسنينه
لماذا اختفى الفنان المثقف الواعي بمشاكل مجتمعه؟
لاشك أن الثقافة من الأشياء الحيوية والضرورية جدًا التي يجب توافرها في الفنان، حتى يكون ملمًا بقضايا ومشاكل وشواغل واحتياجات وطنه ومعبرًا عنها، فهذا أحد أهم أدواره في المجتمع، وخلاف ذلك لا يعد الفنان فنانًا حقيقيًا متكاملًا وتصبح أعماله أشبه بالوجبات السريعة ال Take Away لا تعيش كثيرًا في وجدان الناس ولا تفيدهم بالشكل المطلوب والمرجو.
والحقيقة أن أغلب فناني الأجيال السابقة خاصةً في العصر الذهبي للفن المصري في حقبتي الخمسينيات والستينيات، كانوا يتمتعون بدرجات مختلفة من الثقافة والوعي بقضايا مجتمعهم ولهذا نجحوا في تقديم أعمال سينمائية ثم تليفزيونية بعد دخول التليفزيون إلى مصر تعد الأفضل على مر التاريخ..
ساعدهم على ذلك توافر نخبة من الكتاب والأدباء العظام الذين أثروا الساحة التي كانت تشهد نهضة ثقافية كبرى آنذاك، أمثال طه حسين والعقاد ويوسف السباعي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس، انعكست بشكل إيجابي جدًا على حالة الفن في مصر بشكل عام..
وذلك قبل أن تتبدل الأحوال ويحدث تراجع كبير في الثقافة وبالتالي الفنون منذ حقبة السبعينيات، مع بداية عصر الانفتاح وسيادة لغة المادة وقيمها، واستمر هذا الوضع وتفاقم بشدة منذ ذلك الحين حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من تراجع رهيب في منحنى الثقافة وروافدها، واضمحلال دور الكتاب كمكون أساسي للثقافة مع طغيان وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت الوسيلة الأسهل للحصول على المعلومات..
رغم عدم دقتها وحياديتها في كثير من الأحيان، وهو ما ظهر جليًا في مستوى ومضمون معظم الأعمال المقدمة والتي صارت تشجع على الجريمة والعنف واحتقار المرأة والترويج لقيم سلبية هادمة لثوابت المجتمع وموروثاته وبات الفنان المثقف الواعي أشبه بالعملة النادرة في هذا الزمان!
من الريحاني إلى نمبر وان
على مدار تاريخ الفن في مصر برز عدد كبير من الفنانين الذين تمتعوا بالثقافة والدراية بأحوال الناس وهو ما تكشف عنه أعمالهم الخالدة منهم على سبيل المثال وليس الحصر.. العبقري نجيب الريحاني الذي كون ثنائيًا مع الكاتب بديع خيري وقدما أعمالًا مسرحية وسينمائية بسيطة ولكنها عميقة.. صاحب السعادة كش كش بيه، سلامة في خير، لعبة الست وغيرها..
سليمان نجيب الذي تربى في بيت ثقافي فوالده الأديب المرموق مصطفى نجيب، وتولى هو رئاسة الأوبرا الملكية ونشر كتاب بعنوان مذكرات عربجي عن أحوال مدينة القاهرة وسكانها ونخبها في فترة العشرينيات، رغم تلقي كوكب الشرق أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب قسط بسيط جدًا من التعليم إلا أنهما تمتعا بقدر وافر من الثقافة التي حرصا على اكتسابها، الأولى من شاعرها المفضل أحمد رامي والثاني من معايشته لأمير الشعراء أحمد شوقي لسنوات عديدة.
عميد المسرح يوسف وهبي كان من المثقفين الكبار، عبد الوارث عسر كتب الشعر والقصص والسيناريوهات وألف أحد أهم المراجع في الإلقاء مازال يدرس في المعاهد الفنية بعنوان فن الإلقاء، العملاق محمود مرسي والقدير حمدي غيث قال عنهما الفنان الكبير المثقف نبيل الحلفاوي أنهما كانا نموذج للفنان المثقف الحقيقي..
الفنان أحمد خميس كان شاعرًا وكاتبًا قديرًا وغنى له عبد الوهاب قصيدة الروابي الخضر أو ليالي الشرق، ومن الأجيال التالية يبرز الموسوعي نور الشريف الذي كان يقول لي أنه على سبيل المثال قرأ أكثر من 30 كتابًا عن هارون الرشيد عندما كان يستعد لتقديم عمل تليفزيوني عنه يحمل نفس الإسم! وكان ملمًا بكل القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية ومحللًا لها من الطراز الأول..
ومن أبناء جيله المثقفين.. محمود ياسين، محمد صبحي، حسين فهمي، عادل إمام، عبد العزيز مخيون، صلاح السعدني، محي إسماعيل، محمود حميدة، ومن الأجيال الحالية قلة قليلة جدًا منهم.. السوري جمال سليمان، خالد الصاوي، صبري فواز، حنان مطاوع، ياسر جلال.
في حين نجد الغالبية العظمى من الفنانين في هذا الزمان بعيدين تمامًا عن الثقافة وأكاد أجزم أن هؤلاء لا يقرأون الكتب إلا نادرًا ولا حتى يطالعون عناوين الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية ويستقون معلوماتهم القليلة والضحلة من وسائل التواصل الاجتماعي فقط..
للأسف وهو ما تعكسه بوضوح أعمالهم الفنية التي تأتي أغلبها بلا مضمون حقيقي هادف وبلا عمق أو مورال يفيد المجتمع بل تروج لقيم هدامة مثل البلطجه والربا وتعدد الزوجات والجريمة بكل صورها، ولعل أوقع مثال على هذا ذلك الذي يلقب نفسه بالأسطورة ونمبر وان محمد رمضان الذي لم يكمل حتى تعليمه بمعهد الفنون المسرحية ولم أعرف عنه أنه قرأ كتابًا في يوم من الأيام!
الأمل في الأجيال القادمة
ليس معنى ما سبق أن الصورة شديدة القتامة وحالكة السواد، لا على الإطلاق فمازال هناك قلة من الفنانين والكتاب والمخرجين وصناع الفن الذين لديهم درجات ما من الثقافة والوعي والإلمام بقضايا المجتمع الحيوية والضرورية، ويحاولون قدر المستطاع التعبير عنها في أعمالهم رغم أن الأجواء المحيطة لا تشجع على ذلك!
كما أن الأمل معقود على الأجيال القادمة من شباب الفنانين في أن يتسلحوا بالعلم والثقافة، بجانب الموهبة بالطبع لتقديم أعمال مختلفة تحمل رؤى مهمة وعمقًا وفهمًا لظروف ومتطلبات الجمهور في إطار الدور الحقيقي للفن والفنان، وذلك شريطًة أن يعود دور الدولة المفقود في الاهتمام بالكتاب والثقافة والمثقفين والفن الجاد والفنانين الحقيقيين بعيدًا عن الشللية والسطحية والضحالة وحاملي المباخر!