الرضا.. راحة وعبادة!
عمر الإنسان تتفاوت مراحله قوة وضعفًا، لكن أعظمه بلا شك هو مرحلة الشباب، وفيه يقول رسولنا الكريم عن الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "وشاب نشأ في طاعة الله".. ويقول الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: "أمران لا يدومان للمؤمن؛ شبابه وقوته.. وأمران ينفعان كل مؤمن: حسن الخلق وسماحة النفس.. وأمران يرفعان شأن المؤمن: التواضع وقضاء حوائج الناس.. وأمران يدفعان البلاء: الصدقة وصلة الأرحام ".
إذا لم تحدد هدفك في الحياة فسوف تظل تبحث عن وهم، فالسعادة في الرضا والرضا في القناعة.. والحياة مراحل تفضى إحداها إلى الأخرى وفي كل مرحلة نتعجل بلوغ الأخرى؛ ففي الطفولة نحلم بأن نصبح كبارًا ونتصرف مثل الكبار، وفي سن المراهقة، نملك الوقت والطاقة والأهم نملك الحلم باتساع العالم..
لكن ربما لا نملك المال الذي يساعدنا في تحقيق الأحلام، وفي الشباب ربما نجد العمل ونملك المال لكننا لا نملك الفراغ بل نصارع لامتلاك العالم، وتمضى الحياة تلتهم محطات العمر حتى تجد نفسك في مواجهة شيخوخة لا ترحم، بما تنطوى عليه من ضعف وشيبة واحتياج نفسي لا يسند الإنسان فيه إلا ما قدم لنفسه في شبابه وفتوته.. هنا يحصد ما جناه..
فحذارى أن تجور على شبابك وتذهب فيه طاقتك ومواردك كلها دون أن تبقى لشيخوختك شيئًا يعينك على احتمال الحياة التي قد تمنحك شيئًا لكنها حتما تسلب منك أشياء.. فمن جار على شبابه جارت عليه شيخوخته.
أما أهم أسلحتك في الحياة، أن تتحلى بالرضا، وألا تنظر إلى ما في يد غيرك.. يقول الله تعالى: "لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ" (طه:131).
الرضا والقناعة
وتلك قسمة الأرزاق التي قسمها الله تعالى بين عباده.. يقول الله تعالى "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗوَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" (الخرف:32).
فاحذر أن تغتر بما منحك الله من مال أو صحة أو أولاد.. واحذر أن تسخط لما مُنع عنك من زينة الحياة الدنيا وزخرفها.. ولا تعتقد بأن حياة الآخرين هي أفضل من حياتك.. فهنا يكمن الخطر ويولد الحسد والكراهية والتمرد على الحياة والفشل..
فالشيطان يسكن في التفاصيل دائمًا.. والتفاصيل هنا وساوس وأوهام تدور في النفس.. فإذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك حقًا فاذهب للمستشفيات وانظر لحالة المرضى الذين يحلمون بأن يستردوا عافيتهم مقابل كل أموال الدنيا.. لتدرك أن الرضا بالمقسوم عبادة وراحة للقلب.. فابحث عن سعادتك في نفسك.. "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ"..
ولعل ما يحدث حولنا اليوم في غزة من دمار وقتل وحرب إبادة بحق أشقائنا لأكبر دليل على أن نعمة الأمن لا تعدلها نعمة.. يقول رسولنا الكريم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا".. تلك نعمة كبرى ينلغى ألا تنسيك أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"..
فانظر إلى جيرانك وتفقد أحوالهم فربما كانوا في أشد الحاجة إليك، وربما يكون ذلك العمل سبيلًا لسعادتك في الدنيا والآخرة.. وحق الجيرة للأفراد كما للشعوب والدول.. فلا تحرم جيرانك من عونك الصادق ومحبتك ودعمك.. فقد قال الرسول الكريم "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
الرضا لا يتحقق إلا بالقناعة، والقناعة لا تتحقق إلا إذا أبصرت حقيقة الدنيا.. تلك العرَض الزائل التي لو كانت تساوى عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء.. فأرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس!