أنشودة المجد والخلود!
لا صوت يعلو فوق صوت طوفان الأقصى.. هذا هو حال الإعلام هنا وخارج هنا.. أما المعركة فلها أسلحة عديدة غير البارود والقنابل والطائرات والمدافع.. هناك الميديا بقدرتها الخارجة على التضليل أو التحفيز.. وهناك دبلوماسية التفاوض والحشد والتآذر بالكلمة والصورة.. وما أخطرها من وسيلة للدعم وشحذ العزائم وشحن الهمم.. والأغنية ضرب من فنون الكلمة المسموعة التي تجد طريقها سريعًا للخلود في الوجدان والذاكرة القومية.
فهل ننسى أغنية الله أكبر باسم الله باسم الله، التي صاحبت قتال الأبطال في حرب أكتوبر.. ودائمًا ما تلعب الأغنية الوطنية دورًا هائلًا في التعبئة والحشد والاصطفاف خلف راية الوطن.. ولا عجب والحال هكذا أن تلاحق إسرائيل الأغنية الفلسطينية الوطنية ومن يغنيها من الزجالين والفنانين الشعبيين بل أحيانًا تتهمهم بالتحريض.
دور الأغنية الوطنية
فمثلًا أغنية الدحية التى صدح بها الفنان الفلسطيني محمد البرغوثي، وعلى وقع ألحانها الحماسية وكلماتها الشجية تغنى بابن بلدته عمر العبد المقاوم الفلسطيني فأحدث بها صدى شعبيا كبيرا وواسعا، إذ سرعان ما طربت لها آذان الجماهير لا سيما الشباب وتناقلتها ألسنتهم، لكنها انعكست سلبا على صاحبها وفرقته الفنية بعد أن اعتقلهم الاحتلال.
الأغنية الوطنية تلعب دورًا خلاقًا في حفز الإرادة الشعبية وإنعاش ذاكرة الانتصارات وإبقاء الوجدان الوطني عامرًا بأمجاد النصر؛ ومن ثم صارت أكثر ارتباطًا بالوجدان الشعبي وأكثر التصاقًا بالذاكرة القومية؛ ومن ثم تعلو مكانتها بحسبانها جزءًا أصيلًا من نضال شعبنا، وعلامة فارقة على تاريخنا.
ومن هنا تحقق لها الخلود، وصارت عابرة للعصور. وهو ما لا نراه في كثير من أغاني اليوم التي لا تصمد في الذاكرة ولا تترك تأثيرًا يذكر حتى في نفوس من يحرصون على سماعها؛ ما يؤكد أن الغناء ليس مجرد صوت مترنم يشدو بلحن جميل بل إحساس وإيمان بقيمة الكلمة الصادقة التي تملك الوجدان وتحدث التغيير وتصوغ الذوق والإحساس.
الأغنية الوطنية دخلت عصرها الذهبي في مصر مع ثورة 23 يوليو، حيث تفجرت شلالات هذا النوع من الأغاني بصورة غير مسبوقة مثل "عالدوار عالدوار راديو بلدنا فيه أخبار"، وصدحت أم كلثوم بعد أسابيع قليلة جدًا من قيام الثورة بأغنية "مصر التي في خاطري وفي فمي أحبها من كل روحي ودمي".
كما جرى الإفراج عن أغنية عبدالوهاب "كنت في صمتك مرغمًا" التي منعت، ثم توقفت الأغنيات الوطنية بعض الوقت حزنًا على رحيل عبدالناصر، ثم عادت بقوة مع نصر أكتوبر العظيم في عهد السادات الذي غنى له حليم للمرة الأولى عاش اللي قال.
أما بعد نصر أكتوبر وعودة القناة فقد غنى العندليب المركبة عدّت في احتفال مهيب أقيم على ضفافها.. ولهذا فلا عجب أن يظل عبد الحليم وأم كلثوم وغيرهما من الفنانين أصحاب الأغاني الوطنية بعد كل هذه السنوات حاضرين بقوة كقيمة ورمز في وجدان المصريين وجزءا من ذاكرتهم الوطنية..
وكان لنصر أكتوبر تأثير مختلف ومذاق خاص، فقد حظي بحالة فريدة من الصدق الفني لأغنيات عديدة مثل باسم الله.. الله أكبر باسم الله للمجموعة، وأنا عالربابة باغني لوردة، ويا أول خطوة فوق أرضك يا سينا، الباقي هو الشعب لعفاف راضي، ولفي البلاد يا صبية، وقومي إليكِ السلام يا أرض أجدادي!، وصباح الخير يا سينا لعبد الحليم..
غياب الأغاني الوطنية
استدعاء الأغاني الوطنية مشهد يتكرر باستمرار كلما تحقق نصر قومي هنا أو هناك حتى ولو كان حدثًا فرديًا عابرًا.. وقد رأينا ذلك أثناء الاحتفال بالذكرى الثانية والثلاثين لاسترداد طابا.. فمن ينسى أغنية مصر اليوم في عيد للفنانة الراحلة شادية التي ترافقت مع تلك المناسبة العظيمة.
الفن من أقوى أدوات القوى الناعمة؛ بل إنه بمثابة جهاز مناعة وظيفته تحصين الوطن ضد كل ما هو دخيل أو معادٍ، وهو رسالة تنوير وصيحة تحذير ضد كل ما من شأنه الإضرار بوعي الناس أو الانحراف بهم عن الفضيلة والأصالة والوعي الصحيح بواجبات الوقت ومقتضيات المواطنة.. كما يدرأ عنهم كل محاولة لاستلابهم أو إفساد ذوقهم بأعمال هابطة غنائية كانت أو تمثيلية أو حتى توك شو.
الأغنية الوطنية كثيرًا ما كانت تهب لتساند الدولة وتشد من أزر قيادتها في الشدائد والمفترقات الصعبة وقد رأينا كيف كان لأغاني أم كلثوم وعبدالحليم تأثير لا يدانيه تأثير، وكيف صنعا بصوتهما ببضع كلمات ما عجزت عن صنعه مئات البرامج والمقالات والكتب.
كانت بساطة عبد الحليم وتلقائيته وعذوبة كلماته وروعة ألحانه تسحر الآذان وتلهب المشاعر، وتحيى الأحاسيس وتصنع مجدًا ليس لشخصه فقط بل للغناء المصري الذي صادف وقتها كوكبة من المبدعين تتصدرهم كوكب الشرق أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وأمير الطرب والتلحين فريد الأطرش وغيرهم من عمالقة الغناء في تلك الفترة الخصبة من تاريخ مصر..
والسؤال أين ذهبت أغانينا الوطنية.. هل نضبت قريحة كتاب الأغانى.. أم ضلت أصوات الفنانين طريقها إلى أشودة الخلود والمجد؟!