من يوقف الاستغلال؟!
لا يهم أن تجد مكانًا جميلًا بل الأهم أن تجد مجتمعا جميلا يجعل كل الأماكن جميلة ويأمن في كل فرد على نفسه وأهله وكل ما يملك.. مجتمعا يرفض الاستغلال والابتزاز والانتهازية.. وكلها سلوكيات لا يرضاها دين ولا يقرها قانون، فالاستغلال السلبي بمعنى الاستفادة من إنسانٍ ما، دون تقديم فائدةٍ له هو سلوك أناني؛ لأن الفائدة فى العلاقات الإنسانية يجب أن تكون متبادلة.
وفي بلادنا تنتشر الفهلوة كأبشع صور الاستغلال السلبي.. ويوما بعد الآخر تتسع دائرته ليشمل كل استغلال مادى أو معنوي للآخرين في لحظة احتياج أو لحظة ضعف لا يستطيعون معها رفض أو مقاومة مثل هذا الجرم بل يضطرون لقبوله صاغرين مع ما يثيره ذلك في نفوسهم من يأس وكراهية وحقد على المجتمع الذي لم ينجح في حمايتهم وإشباع حاجاتهم وتركهم نهبًا لكل من هبَّ ودبَّ.
للاستغلال السيئ صور كثيرة، منها استغلال الموظف لوظيفته للتربح منها وتلقى الهبات والرشاوى لإنجاز مصالح الناس، واعتبارها مع الوقت إكراميات وحقًا مكتسبًا استسلم له المجتمع وأجازه البعض تسهيلًا لقضاء الحاجات واستيداء الحقوق، ما دام يحدث اقتضاءً للحقوق وليس افتئاتًا على حقوق الغير.
الاستغلال السيئ
استغلال الأطباء وخصوصًا المشاهير منهم للمرضى ورفع ثمن الكشف (الفيزيتا) بصورة تفوق القدرات المادية للفقراء، بدعوى ارتفاع أسعار الدولار هو استغلال لا يحقق إلا مصلحة طرف واحد هو الطبيب، بينا يضاعف معاناة ملايين المرضى المحتاجين، فقد يضطر مريض محتاج لمزيد من الاستدانة من والتضييق على أسرته لسداد هذا الدين، الذي هو همٌّ بالليل وذلٌّ بالنهار رغبة في التحرر من ربقة المرض وآلامه القاسية.
أما استغلال المدرسين للطلاب وتقاعسهم عن الشرح الوافي في الفصول لدفع الطلاب للحصول على الدروس الخصوصية؛ ما يجعل المدرسة مجرد مكان يحوى ملفات الطلاب ويمنحهم الشهادات الدراسية ولا تؤدي دورها التعليمي والتربوي على الوجه الأمثل، ولا يكتفي هؤلاء المدرسين بإعطاء دروس خصوصية بل إن بعضهم يبالغ في أسعارها وخصوصًا في السناتر بالمدن الكبرى وعواصم المحافظات..
التي لا أبالغ إذا قلت إن تلك السناتر صارت مؤسسة تعليمية موازية تحقق أرباحًا فلكية لأصحابها وللمدرسين القائمين عليها والذين لا يتورعون عن مص دم الغلابة، واستغلال رغبتهم في تعليم أبنائهم وحصولهم على درجات عالية في الشهادات، وخصوصًا الثانوية العامة..
حتى أن الطالب يدفع في الحصة الواحدة مثلًا 70 جنيهًا بخلاف الكتب والمذكرات التي تستنزف جانبًا كبيرًا من ميزانيات أسر أرهقها ارتفاع فاحش لأسعار كل شيء بصورة متزايدة.. ولا أدرى لماذا كانت التربية والتعليم تشن في عهد وزيرها السابق الدكتور طارق شوقي حملات لغلق تلك السناتر ثم توقفت الآن.. ففيمَ كانت المطاردة والتجريم وفيمَ صار الصمت وغض الطرف عن هذا الاستغلال المقيت؟!
السكوت على الاستغلال السيئ أغرى فئات كثيرة باستمراء الجشع وأشعل النار في أسعار كل شيء حولنا من حيث لا ندري، حتى باتت الحياة أشبه بغابة يلتهم الأقوياء الضعفاء بلا رحمة وبات كل طرف حريصا على استغلال صاحبه للحصول على أكبر منفعة..
وهدمنا بأيدينا قواعد السلام الاجتماعي، وتفشت فينا جرائم وحشية تسللت إلى الأسر التي وجدنا فيها من يقتل زوجته وأولاده لأتفه الأسباب تحت وطأة الحاجة والقسوة والتجرد من الإنسانية.. فكيف السبيل لاستعادة إنسانيتنا من براثن الماديات والغرائز؟!
وللحديث بقية.