من أمات المشاعر.. وضيع الحميمية؟!
بفضل التكنولوجيا صار البعيد قريبا.. والقريب بعيدا.. تجاوزنا المسافات لكن أخطأنا الوصول.. انشغلنا بما ليس في أيدينا وتركنا ما هو لنا.. في بيوتنا أشياء عجيبة كل منا ينكب على هاتفه المحمول يتواصل مع من هم في أقصى الأماكن وترك من يجلس بجواره تحت سقف واحد..
العجيب حقا أن ترى أفراد الأسرة الواحدة يتواصلون أحيانًا مع بعضهم البعض، عبر مواقع التواصل الاجتماعي رغم وجودهم في بيت واحد، فتجد الأم تطمئن على ابنها ب"لايك"على الفيس بوك، ويرد عليها الابن ب"كومنت" على أحد المنشورات.
في زمن السوشيال بردت المشاعر واختفت الحميمية في العلاقات.. وضاع في زحمة الدروب كثير من معاني الحياة والقيم النبيلة التي تربى عليها أجيال وأجيال من العظماء. ربما يفهم البعض خطأ أن بر الوالدين يقتصر فقط على الإنفاق عليهما عند الحاجة، والسمع والطاعة، وخفض الجناح لهما، وعدم رفع الصوت عليهما، ومخاطبتهما بالكلام الطيب والأسلوب الحسن..
ضجيج إلكتروني
كل هذا طيب لكن الأطيب منه قول الله عز وجل: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا" (الإسراء: 23، 24).. أرأيتم كيف يأمر ربنا بخفض الجناح لها ذلا ورحمة ومؤانسة في الوحدة بحسن الحوار والاستماع باهتمام إليهما لإشباع حاجتهما النفسية في الكبر.
الاغتراب النفسي شيمة زماننا وأكبر آفاته.. وليس من البر والحال هكذا أن ينشغل الأبناء عن الآباء بدعوى أن الدنيا تغيرت وأن إيقاع العصر صار أكثر سرعة صحيح أننا علمنا في مدارس حكومية دون دروس خصوصية ولا مجموعات ولا سناتر تستنزف ميزانية الأسر بلا رحمة هذه الأيام..
كانت الأسرة أسرة والمدرسة مدرسة بكل معانيها.. وكان المدرس معلمًا بكل ما تحمل الكلمة من فضائل وخصال صاحبها.. وكانت للمدرسة أدوار لا تتخلف عن أدائها، كانت مكانًا للأنشطة الترفيهية.. فيها الموسيقى والألعاب والاقتصاد المنزلى.. ولم تكن هناك حفلات صخب ومجون وكانت قمة الترويح عن النفس في حصة ألعاب أو موسيقى وغناء.
كانت الحياة جميلة وكنا نسافر للخارج للعمل وللسياحة دون أن ننسى انتماءنا للوطن واحترامنا الكبير له؛ فقد كانت تربيتنا على القدوة الحسنة والمُثل العليا راسخة في النفوس ونشأتنا متينة الأساس والبنيان.
كنا في الريف نتعلم في كتَّاب القرية الذي كان ملاذًا لكل أبنائها، سواء التحقوا بالمدرسة أو لم يلتحقوا، تعلمنا كتابة حروف الهجاء على اللوح، وطريقة نطقها الصحيح.. وتخرج في الكتَّاب والمدارس الحكومية علماء أفذاذ يشار لهم بالبنان في كل الدنيا.. وهو ما يجعلنا نرجو عودة الدور التربوي لمدارسنا وللأسرة حتى تقوم بواجبها نحو الأبناء لينشأوا مواطنين صالحين يبنون وطنه ويذودون عنه بوعي وإيمان لا يتزعزع.
نتمنى أن تعود مؤسساتنا التربوية والتعليمية لدورها الأصيل ليتخرج في الجامعة طبيب صالح ومهندس صالح ومعلم فاضل وليس مدرسًا كل همه جمع المال من الدروس الخصوصية وجيب المواطن.. نتمى أن تعود الروح لحياتنا وعلاقاتنا وتسترد الأسرة عافيتها في زمن الخرس الزوجي رغم الضجيج الإلكتروني الذي نزع الروح الحلوة من حياتنا.. ليتنا نستنقذ أنفسنا من براثن التكنولوجيا قبل أن تسحق ما بقى من إنسانيتنا البريئة!