تعلمت من أمي كيف تكون الحياة
ما أعظم ما قاله رسولنا الكريم عن الأب.. (الوالدُ أوسطُ أبواب الجنة، فإن شئتَ فحافظ ْعلى الباب أو ضيِّعْ).. أما الأم فقد وصفها المنفلوطي بعبارة غاية في الروعة حين قال: إنها ينبوع تتفجر منه جميع عواطف الخير والإحسان في الأرض.. وما بين الجنة بنعيمها والخير والإحسان يرفل الإنسان في النعم ببركة والديه؛ فهما نعمة كبرى، ومظلة رحمة وأمان، لا يمكن تعويضهما إذا غابا عن الحياة.. فهما نبع عطاء وحب فطرى خالص لا تحركه المصالح ولا تحكمه النوازع والأهواء.
أما الأم فهى نبع الحياة وروحها، ورمانة الميزان في كل أسرة.. من فقدها تجرع مرارة اليتم؛ فاليتيم الحق هو من فقد أمه، بصيرتها بوصلة لا تخطىء طريقها، وحنانها يبنى نفوسًا سوية إذا شبع منها الأبناء.. أما إذا فقدوها لموت أو انفصال زوجي فقد حرموا الخير كله.
وقد كانت أمى رحمها الله وجعلها في الفردوس الأعلى من الجنة، مَدْرَسةً شاملة، تعلمت فيها مباديء الحياة بكل معانيها وقيمها.. عرفت على يديها كيف أكون إنسانًا يعطى دون أن ينتظر الجزاء من أحد.. علّمتنى كيف أصنع أهدافي في الحياة وكيف أسعى لتحقيقها بصبر وجهد وعرق دون كلل أو يأس..
كانت رغم أنها لا تجيد القراء والكتابة تملك من الوعى والفهم والإدراك ما يفوق قدرات خريجي الجامعات.. لديها ذكاء اجتماعي فطري تعرف كيف تنسج روابط الأسرة وتجمع شملها وتحافظ على تماسكها واستقرارها بأبسط الإمكانيات، وقد أكسبتني الكثير والكثير من خبرات الحياة بوعي لا مثيل له في نظري.
عطاء الأم
أمي رغم بساطة ثقافتها كانت تدير بيتها بانضباط شديد، وتدبر احتياجاته بأبسط الإمكانيات كأفضل وزير مالية واقتصاد في العالم فلا تجد فيه نقًصًا ولا تشعر فيه باحتياج.. كانت حسنة الطباع والأخلاق كجمال زمانها الذي نفتقده هذه الأيام.
كنتُ، رغم ضعف راتب والدي الموظف البسيط كأغلب أهل زمانه، لا أشعر مطلقا بأي نقص في احتياجات بيتنا، فكل ما نحتاجه من الضروريات موجود بفضل حسن تدبيرها.. وحتى حين أتممت دراستى الإعدادية ومن بعدها الثانوية العامة في الزقازيق ثم انتقلت بعدها لدراسة الإعلام بجامعة القاهرة كانت توفر لي كل ما أحتاجه من طعام وشراب.. كانت تقتطع من قوت أسرتنا حتى تكفيني مؤن العيش الكريم.
تعلمت من أمى ما لم أتعلمه في الكتب والمدارس، تعلمت منها كيف أختار أصدقائي بعناية؛ فالمرء على دين خليله، والجليس الصالح كحامل المسك، إما أن تبتاع منه، أو تشم رائحة طيبة.. أما صديق السوء فهو كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك أو تشم منه رائحة خبيثة.. وقد أظهرت أمي حرصًا كبير على حسن اختياري للأصدقاء..
فأصدقاء السوء هم أقصر الطرق للانحراف وسوء الأخلاق والضياع..وكم من صديق كان وبالًا على صاحبه.. هكذا تعلمت من أمى وهكذا كانت ككثير من أمهات ذلك الزمن الذي عشنا فيه أيامًا حلوة، فيها دفء الأسرة ولمة العيلة، واحترام الكبير والرحمة بالصغير.
كانت أمى مدرسة وجامعة بل كانت الحياة كلها.. تسدى النصح الجميل دون أن أطلبه، ترقب تصرفاتي من بعيد وتتدخل في الوقت المناسب بخبرتها ورجاحة عقلها لتصحيح المسار بإقناع وحوار لا إحراج فيه ولا إكراه.. لم نشعر أنها قيد على تصرفاتنا، ولا هى رقيب على أعمالنا..
لم تكن تنشغل عنا بسوشيال ميديا غرقت فيها الأمهات بحثًا عن التريند البئيس.. ولا انشغلت عنا حتى بثرثرة عابرة مع جيرانها رغم حميمية العلاقات بين جيران هذا الزمان.. بل كنا، إنا وإخوتي، مبتداها ومنتهاها وغايتها.. كنا رسالتها التي جاءت الحياة لأجل إتمامها على أفضل وجه.. لم نشعر أننا عبء عليها رغم أننا كنا أكبر الأعباء..كان حبها لنا أكبر من أي مشقة أو تعب.. تعطى عطاء من لا ينتظر الجزاء والشكر.. كنا جزءًا من روحها.. وكانت هي كل كل حياتنا.
كان حلم أمي هو مستقبل أولادها ورعايتهم والوصول بهم لبر الأمان.. كانت تسهر معي الليالي، تؤنسنى وتشجعنى أثناء المذاكرة على مصابيح كيروسين أو غاز فلم تكن قريتنا بيشة قايد بالشرقية تعرف الكهرباء.. هكذا تربينا في بيت تعرف الأم معنى التربية ويعرف الأب مقتضيات الأبوة والرجولة.. ما اعظمك يا امي يرحمك الله.. وللحديث بقية