كيف تهدم شهادة الزور العدالة والسلام الاجتماعي؟!
قد يتساءل البعض لماذا شدد رسول الله على ضرورة تجنب شهادة الزور؟! والجواب: لفداحة أضرارها ومخاطرها المهولة على الأفراد والمجتمعات، فالله تعالى نهى عنها في كتابه العزيز: بقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج:30). ويقول: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) (المجادلة:2).
ولا تقتصر شهادة الزور أو قول الزور على الشهادة أمام القاضي في المحكمة أو حتى في المجالس العرفية بل تتسع الدائرة لتشمل كل قول مخالف للحقيقة بقصد إيقاع الضرر بالغير، وكل إخفاء متعمد للحقيقة؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس وكل قلب للحقائق وتزييف للتاريخ.. وكتمان الشهادة نوع من تشجيع شهادة الزور والمساعدة على انتشاره في المجتمع ومن ثم فقد نهى الله تعالى عنه صراحةً..
يقول الله تعالى: "وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" (البقرة283)
فلا يحل لأحد أن يكتم شهادة هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ارتكب إثما عظيما.. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول: "على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد، ويخبر بها حيث استخبر ".
شرعًا.. تُعدُّ شهادة الزور من أكبر الكبائر، ويكفي هذه الجريمة عظمًا أنها قرنت بالإشراك بالله تعالى وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وهي من أعظم المنكرات، لما فيها من ظلم للمشهود عليه بالزور، والواجب على كل مسلم أن يحذرها، وأن يبتعد عنها لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح المتفق عليه:
"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" يعني: حتى قال الصحابة: ليته سكت؛ إرفاقًا به -عليه الصلاة والسلام- لئلا يشق على نفسه، كررها كثيرًا ليحذر منها؛ لأن بعض الناس يتساهل فيها، وربما يعطى مالًا ليشهد بالزور.
التوبة من شهادة الزور
شهادة الزور منكر عظيم، والواجب على كل واحدٍ أن يحذرها ويتحاشى الوقوع فيها، وألا يشهد إلا بحق بما يعلم، لا يشهد بالزور ولو كان صديقًا، ولو كان على عدو، لا يقول: اشهد لي، وأشهد لك، هذا منكر، كبيرة عظيمة، لا يشهد إلا بما يعلم، قال تعالى": إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون" (الزخرف: 86)
أما لماذا كانت الشهادة واليمين الكاذبة من أكبر الكبائر ويكون الأمر فيهما أشد ظلمًا للغير؛ فذلك لأن فيهما اقتطاع حق لمسلم أو ظلمًا لبريء، ولذلك فإن على من تعمد شهادة الزور، وفرق بها بين زوجين أن يراجع نفسه ويثوب إلى رشده قبل فوات الأوان وبادر بالتوبة النصوح إلى الله تعالى، وأن يصلح ما أفسده بلسانه، وأن يكذب نفسه أمام من شهد عندهم بذلك، وأن يستسمح من وقع عليه منه ضرر، ولا تتم توبته إلا بذلك العمل الذي به تعود الحقوق لأصحابها، ويدفع بها الضرر عن المظلومين، وعن كل بريء طالته مظلمة دون ذنب ولا جريرة.
شهادة الزور مظلمة لا تسقط بالتقادم وحتى إن أفلت مرتكبها في الدنيا فلا يفلت من حساب الله تعالى في الآخرة؛ ومن ثم فإن الواجب الحذر منها، ومن فعل ذلك فالواجب عليه أن يبادر بالتوبة، وأن يرجع عن شهادته، ويخبر المشهود عليه بالزور أنه ظلمه، ويعوضه عن هذا الظلم إن كان أخذ بشهادته حقًا يعطيه ما أخذ منه من المال، أو يصفح عنه إذا سمح عنه؛ لا بأس.
شاهد الزور على خطر عظيم، فكيف ينام قرير العين وقد ظلم نفسه وظلم غيره بتلك الشهادة المنكرة، وكيف ينظر لنفسه في المرآة وماذا سيقول لربه حين يلقاه.. وكيف يضمن ألا يقع عليه ظلم كالذي أوقعه بغيره.. أما كفارة شهادة الزور وغيرها من المعاصي فهى التوبة إلى الله عز وجل، وإذا ترتب عليها ضرر في حق آدمي فيجب التحلل منه.
ويشترط في توبة المعصية القولية أن يقول صاحبها: قذفي باطل وأنا نادم عليه ولا أعود إليه ويقول في شهادة الزور: شهادتي باطلة وأنا نادم عليها، أما المعصية غير القولية فيشترط في التوبة منها الإقلاع عنها والندم عليها والعزم ألا يعود لها ورد مظلمة الآدمي إن تعلقت به.. حتى يلقى العبد ربه بلا كبائر تحرمه من رضا الله ورحمته.
شهادة الزور نوع من الكذب المتعمد الذي يورد صاحبه موارد التهلكة، ويورد المجتمع موارد الانقسام والوهن وتفسخ العلاقات والبغضاء والكراهية وإزهاق العدالة والسلام الاجتماعي.. ولابد من التوقف عنها ليسلم الناس من أذاها ويعم السلام والأمن ويعود للمجتمع سلامه وتماسكه.. فهل يتوقف الكاذبون وشهود الزور عن غيهم ويثوبوا إلى رشدهم قبل فوات الأوان؟!