أبو الزهراء يكافئ مادحيه (1)
المدائح النبوية ليست فنا من الشعر حديثا، أو طارئا، فقد رأينا في سلسلة مقالاتنا السابقة "الصحابة شعراء، في دوحة خير الأنبياء"، أن كثيرا من الصحابة قالوا الشعر في مديح سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مثل: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وحمزة بن عبد المطلب، والعباس، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، فضلا عن شاعر النبي، حسان بن ثابت، وغيرهم، رضي الله عنهم.
وفي هذه السلسلة نتناول بالتفصيل أسماء من قرضوا الشعر في مديح النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قديما وحديثا.
والمدائح النبوية من فنون الشعر التي نشرها التصوف، فهي لون من ألوان التعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع، فهي لا تصدر إلا عن أفئدة محبة ومفعمة بالصدق والإخلاص الحقيقي.
المحبون يعتبرون النبي حيا على الدوام
ومعظم المدائح النبوية قيلت بعد انتقال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى خالقه.. ورغم أن ما يقال بعد الوفاة يسمى رثاء، إلا أنه في رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يسمى مدحا.. فالمحبون يعتبرون النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، حيا على الدوام، موصول الحياة، ويتعاملون معه بأشعارهم على هذا الأساس، ويخاطبونه كما يخاطبون الأحياء.
والخالد من المدائح قيل بعد انتقال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، مثل مدائح ابن الفارض، والبوصيري، وأخيرا أحمد شوقي، وغيرهم. وهؤلاء المادحون لم يقصدوا بمدائحهم منفعة مادية، كما كان الحال في الجاهلية، وعصور ما بعد الخلفاء الراشدين، حين كان الشعراء يدبجون القصائد في مديح الأمراء والملوك والخلفاء؛ طمعا في العطايا والمكافآت المادية.
مادحو سيدنا النبي
ولكن مادحو سيدنا النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، طمحوا إلى التقرب من الله ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، ونشر مناقب النبي، وربما نشر الدين الإسلامي، وتبيان محاسنه. وفي عصور تالية كان المديح للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وآل بيته الطيبين الطاهرين، فهذا تطور ونقلة في فن المدائح النبوية، اتسع باتساع نطاق التصوف.
ويرى الدكتور زكي مبارك، رحمه الله، في كتابه "المدائح النبوية في الأدب العربي"، أن أحدا لم يُعْنَ، قديما أو حديثا، بتأريخ هذا الفن المهم في اللغة العربية؛ لأن الذين أجادوه لم يكونوا في الأغلب من فحول الشعراء، ولأنه لم يكن فنا ظاهرا بين الفنون الشعرية، كالرثاء، والوصف، والغزل، والنسيب..
وإنما هو فن نشأ في البيئات الصوفية، ولم يهتم به من غير المتصوفين إلا القليل، ومع ذلك فهو فن جدير بالدراسة؛ لأن فيه بدائع من القصائد والمقطوعات، ولأن له شمائل غير شمائل المديح، ولأن لأصحابه غايات دينية، وأدبية، جديرة بأن تدرس، وبأن يزاح عنها الستار.
طبقات المادحين وأحوال المحبين
وأقول الصدق؛ إنني ما أن انتهيت من كتابة هذذه السلسلة، وكنت قد وضعت لها عنوانا، هو “طبقات المادحين وأحوال المحبين”، حتى انتبهت إلى مفاجأة لم تكن أبدا في حساباتي، فكافة الشعراء الذي دبجوا قصائد، وصاغوا أشعارا في مديح أبي الزهراء، صلوات ربي وتسليماته عليه، تلقوا مكافأة سخية، وعطية جميلة، ومنحة رائعة منه، صلى الله عليه وآله وسلم.
أجل، ولا غرابة، فهو من قال: “ما من مسلم يصلي عليَّ واحدة، إلا صلى الله عليه وبها عشرا”.. فهذه مكافأة خالق السموات والأرض، سبحانه، فكيف بمن يمدح حبيبه ومصطفاه، وصفوة خلقه، صلى الله عليه وآله وسلم؟!
شعراء الجاهلية
شعراء الجاهلية قدم لهم صلى الله عليه وآله وسلم، عطايا مادية، مثل كعب بن زهير الذي قدم له بردة، مكافأة على قصيدته “بانت سعاد”، أما الأعشى فقد تعجل المكافأة، فلقي حتفه. ومن الشعراء المحدثين كلنا يعرف قصة البوصيري، الذي فاز بـ “البردة النبوية”، أما أمير الشعراء، أحمد شوقي فكانت له قصة بديعة، تقشعر لها الجلود، وتهتز لها الأفئدة، فلنقرأها معا في مقال قادم.