عندما نعطي.. نلهم الآخرين بالعطاء (1)
لرأس المال دور اجتماعي مهم في تحقيق التكافل وإعانة الفقراء والمحتاجين.. وهذا الدور نفتقده كثيرًا في مجتمعاتنا مع أننا نجده للأسف مطبَّقًا في الغرب؛ ذلك أن هناك أغنياء ومشاهير تبرعوا في حياتهم بأرقام كبيرة من ثرواتهم، أذكر منهم مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرج، الذي تخلى طواعية عن 99% من ثروته البالغة نحو 45 مليار دولار لصالح مؤسسة خيرية.
فما الذي يجعل الدور الاجتماعي لرأس المال متحققًا في الغرب بدرجة أو بأخرى ولا يتحقق بالدرجة نفسها عندنا؛ لماذا يعرف رجال الأعمال والأغنياء هناك المعنى الحقيقي للوظيفة الاجتماعية لرأس المال، ويسعون لتحقيقها طواعية وبشفافية تثير الدهشة بينما تفتقد مجتمعاتنا ذلك المعنى وتغيب عنها تلك الثقافة رغم كثرة ما عندنا من فقراء ومحتاجين هم أحوج ما يكونون للمساعدة والعون.
أليس الأحرى بنا تطبيقًا لديننا أن نسعى للإنفاق في وجوه الخير تنفيذا لمراد الله سبحانه الذي حث المؤمنين على هذا السلوك في آيات كثيرة كقوله تعالى: "وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ" (المنافقون: 10).
وحتى بمنطق التجارة والربح والخسارة فإن الإسراع بإنفاق المال في وجوه الخير ينفع صاحبه أكثر مما ينفع غيره؛ فمن فوائده الدنيوية أنه سبب لنماء المال وبركته، ودفع البلاء عن صاحبه، وهو من صنائع المعروف التي تقي مصارع السوء، كما ورد في الحديث الشريف: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب".
الدور الاجتماعي لرأس المال
ولو أن كثيرًا من الأغنياء فطنوا لمعنى قوله تعالى: "يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ" (البقرة: 276)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة" لعلموا أنهم الرابحون بصدقاتهم وزكواتهم وتبرعاتهم، يحققون النفع لذواتهم ثم لمجتمعهم وأهلهم وذويهم.. فهم يطفئون بإنفاقهم للمال على المستحقين من المعوزين من حولهم نيران حقد وحسد قد تحرقهم هم أنفسهم، وتعرض مجتمعهم لخطر جسيم يأتي على السلام الاجتماعي ويفتح الطريق لفوضى الجائعين.
وهنا يثور سؤال: هل يمكن أن تحقق شيئًا من السعادة في مجتمع يعاني كثير من أفراده متاعب العيش وآلام الفقر؟
لو أدرك الأغنياء أنه "ما جاع فقير إلا ببخل غني".. لعلموا أنهم بامتناعهم عن أداء الوظيفة الاجتماعية لرأس المال إنما يتسببون مع عوامل أخرى في تعاسة المحرومين الذين جعل الله سبحانه لهم قدرًا معلومًا في أموال الأغنياء والقادرين لقوله تعالى: "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ".
وهو ما ينبغي أن تتنبه له ضمائر رجال المال والأعمال عندنا وتتنادى له الضمائر الحية خصوصًا مع اقتراب شهر رمضان الذي جعله الله مناسبة مهمة لتذكير الأغنياء بآلام المحتاجين حتى أنه "مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا" بنص الحديث النبوي.
لا شك أن المال فتنة وهو أكده النبي بقوله: "إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي في المال.. وأعظم الأعمال سرور تدخله في قلب إنسان مكروب أو مهموم".
لقد جعل الله في فوائض أموال الأغنياء ما يعين الفقراء على احتمال قسوة الحياة وشظفها؛ فليس كل الناس ميسورين في أرزاقهم لحكمة عظيمة يقول تعالى: “وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ” (الشورى:27)، ومن ثم فقد جعل الله الزكاة فريضة لا تتم من دونها قواعد الإسلام ولا تتحقق في غيابها العدالة الاجتماعية والسلم الاجتماعي.
ولم يترك الدين أمر الفقراء لضمائر الأغنياء بل جعل إخراج النصيب المعلوم من أموالهم فرضًا وإنفاق ما زاد على ذلك أمرًا مستحبًا يثاب فاعله.. فهل يدرك رجال أعمالنا وأغنياؤنا أن لرأس المال رسالة اجتماعية لا يتحقق بدونها الأمان والسلم الاجتماعي.. هل يدركون أنها فريضة غيَّبها البعض عمدًا حتى باتت باهتة تحتاج لإعادة صياغة وتغيير ثقافة حتى يبادروا لأدائها طوعًا كما في كل الدنيا.
مقارنة الوظيفة الاجتماعية لرأس المال عندنا بما يحدث في الغرب لن تكون في صالحنا؛ فلن تجد بيل جيتس المصري، وهل هناك أغنياء من بني جلدتنا يمكنهم أن يفعلوا ما فعله مارك زوكربيرج ويتبرع بمليارات أو حتى بملايين الجنيهات لتحسين خدمات التعليم والصحة والأحوال الاجتماعية وكل ما له صلة بسعادة الإنسان ليحيا الناس كما خلقهم الله كرامًا متحررين من ربقة الفقر وآفة الحرمان والعوز الذي يقود في النهاية لمجتمع مريض وضعيف ومشحون بالكراهية والحقد.
ونكمل غدا