أمريكا.. ما بُني على العنف!
بين الغرب والشرق فروق كبيرة؛ ذلك أن الأول يعالج أزماته بصراحة مطلقة لا تعرف المواءمات ولا المداراة ولا الإنكار؛ ومن ثم فإنهم سرعان ما ينجحون في تشخيص العلل وعلاجها حتى ولو كانت الحقائق مريرة ومفجعة؛ فذلك أقرب الطرق للوصول لحلول ناجحة.
شيء من هذا القبيل تقرؤه في كتابات ومؤلفات الغربيين حين يواجهون مجتمعاتهم بحقيقة أمراضهم وآفاتهم.. فمثلًا ليس من باب جلد الذات أن تجدهم يعترفون بأن ثمة أزمة عنف مخيفة تجتاح بلادهم؛ وتحديدًا أمريكا التي شهدت وحدها مقتل عشرين ألفًا من مواطنيها بأسلحة نارية العام الماضي..
وهو رقم مرعب إذا قارناه بعدد المدنيين الذين قضوا في الحرب الأوكرانية في العام نفسه.. الأمر الذي يطرح سؤالًا مهمًا: هل الولايات المتحدة الأكثر عنفًا في بلاد الغرب.. وما أسباب ذلك؟!
هذا العنف المفرط دفع الصحافة الأمريكية والأوروبية لتناول هذه الظاهرة المخيفة على صفحاتها، من وجهات نظر عدة؛ منها مثلًا صحيفة فيجارو الفرنسية التي أفردت ملفًا لهذه االمسألة في محاولة للإجابة عن سؤال: ما الذي يجعل أمريكا الأكثر عنفًا في العالم الغربي؟
الإجابة كانت موضوعية حفلت بها كتب جديدة وقديمة، متنوعة في محتواها وزوايا معالجتها للقضية ألَّفها كتّاب أمريكيون وأجانب أجمعوا على أن ثمة مشكلة حقيقية تعيشها أمريكا؛ أحد هذه الكتب هو كتاب "أمة دموية" ل الكاتب الأمريكي بول أوستر الذي استشهد بصور التقطها مواطنه، المصوّر سبنسر أوستراندر، لأماكن شهدت حوادث إطلاق رصاص قاتلة في بلاده خلال السنوات الأخيرة.
إساءة استخدام الاسلحة النارية
والحق أن بول أوستر اجتهد في قراءة تاريخ بلاده وصاغ تأملات بصيرة ومؤلمة بأسلوب آسِر بجمالياته، وبنظرته الإنسانية المعمقة التي تتحكّم به وتسيّره، وهو ما يحوّل النص إلى صفعة أدبية، وفي الوقت نفسه، إلى مرافعة محكمة ضد العنف.
وضع بول أوستر يده على مفتاح القضية وربط الماضي بالحاضر؛ مؤكدًا أن الآفة بدأت باستخدام ــ أو بالأحرى إساءة استخدام ــ الأسلحة النارية هناك، منذ سمح المستعمِر الأبيض لنفسه بقتل سكان أمريكا الأصليين وتهجيرهم، وكيف استعبد هذا المستعمر ملايين الرجال والنساء آنذاك، قبل أن يصل إلى الزمن الراهن الذي يعاني المجتمع الأمريكي فيه انقسامًا عميقًا بين مؤيد ومعارض لحق المواطن في اقتناء السلاح وحمله..
هذا الحق الذي يكفل دستور البلاد. وهو حق تسبب- بحسب بول أوستر- في وصول 393 مليون سلاح ناري إلى أيدي الناس، وبالنتيجة في عمليات قتل جماعي تتنامى بوتيرة عالية حتى وصل عددها إلى 228 خلال السنوات العشر الأخيرة.
أما أفضل ما انتهى إليه بول أوستر فهو تأمل ما حدث في عهد الرئيس دونالد ترامب من هجوم على مبنى الكونجرس في واشنطن، وهنا يمزج بول أوستر باحترافية عالية التاريخ بأسرار عائلية رهيبة، العلوم الاجتماعية بالفلسفة، والأحداث بالأرقام، بأسلوب سردي ممتع ينتهى فور قراءته بالإحساس بالعجز..
عجز المواطن الأمريكي العادي أمام عوائق سياسية وأيديولوجية تمنع أي إجراء للحد من التسلح في بلده، وعجز الكتابة عن الجراح التي تسبّب فيها هذا التسلح؛ عجزٌ لا يخفف من سطوة كلمات بول أوستر وصور أوستراندر التي ترافقها؛ صور بالأسود والأبيض لأماكن عادية تتحول تحت أنظارنا، بفعل فراغها من أي كائن بشري، إلى شواهد قبور لأحزان جماعية.
إنها قدرة تشخيصية فذة أظهرها بول أوستر حين ربط بواقعية شديدة بين علل الحاضر الأمريكي وآفاته بماضيه غير البعيد ليفسر لنا مشهدًا رآه العالم غرائبيًا يطفح بالهمجية الخارجة من كهوف العصور الوسطى..
حين هرع أنصار ترامب ليهجموا بصورة مرعبة على رمز الديمقراطية الأمريكية وحصنها الكونجرس ويهدروا قيمها التي ظاهرها التحضر والرقي والحرية ورعاية حقوق الإنسان في العالم بينما ينطوي باطنها على زيف حضاري وتناقض صارخ يعيشه القطب الواحد الذي انفرد ولا يزال بقيادة هذا العالم إلى حين!