رئيس التحرير
عصام كامل

تجربة المرض.. دروس لا تنسى!

بين عشية وضحاها منذ أكثر من شهرين.. شعرت بضعف وهزال يغزو جسدى دون سبب واضح فما كان من أبني عبد الرحمن إلا أن سارع باصطحابي إلى اللواء طبيب محمود صلاح أستاذ أمراض الدم الذي أوصى بضرورة دخولي المستشفى على الفور.


وبالفعل استجبت أنا وأسرتي لأوامر الطبيب ودخلت مستشفى المركز الطبي العالمي الذي قضيت فيه أكثر من 45 يومًا تولى خلالها علاجي نخبة ممتازة من الأطباء وطاقم التمريض -رجالًا ونساء- تحت إشراف الدكتور محمود صلاح، وقد تفانوا جميعًا في أداء عملهم وقدم المستشفى العالمي -وهو اسم على مسمى- خدمات طبية بأعلى مستوى حتى تكاد تشعر أنك في فندق من طراز عالٍ بغض النظر عن التكلفة..

 

فثمة دقة في التشخيص والأداء ومتابعة طبية ونفسية دؤوبة تدخل الطمأنينة إلى نفسك وتدفع عنك الخوف، ناهيك عن النظافة والانضباط وحسن معاملة وسعة صدر الأطباء الذين لا ينسبون الفضل لأنفسهم في تحقق تقدم في العلاج، ذلك أنهم يقولون لك إن وظيفتهم تحسين الأداء وليس الشفاء الذي هو من عند الله يقينًا، وفوق ذلك يوفر المستشفى العالمي لمرضاه أطباء نفسيين مهمتهم إدارة حوار مع كل مريض على حدة ليدخلوا الطمأنينة إلى نفسه ويرفعوا حالته المعنوية بما يساعد في تنشيط جهازه المناعي.


كان أول ما لفت نظري عند دخول المستشفى آية قرآنية معلقة على في مدخل المستشفى تقول "وإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِيْنِ" وهي آية تأملتها بعمق واستشعرت معناها بقوة طيلة فترة وجودي هناك، وأدركت أن الأسباب وحدها لا تشفي مريضًا ولا تعيد العافية لمبتلى لكنها إرادة الله الذي أمرنا بالأخذ بالأسباب أم تحقق الشفاء فهو قضاء الله وحده وحكمه النافذ على جميع البشر..

رحلتى في المركز الطبي العالمي

وكم من مرضى شفاهم الله بأيسر الأسباب وكم من مرضى توفاهم الله رغم ما تيسر لهم من أسباب الرعاية. في هذه الفترة الحرجة تحمل أولادي الثلاثة مشقة البقاء معى بالمستشفى، وتناوبوا على مرافقتي داخل غرف المستشفى التي أتعاقب عليها حسب حالتي الصحية. ولم يفارقوني لحظة وسهروا على راحتي واقتطعوا من وقتهم وجهدهم الكثير رغم احتياج أسرهم وأولادهم لهم خصوصًا ونحن في تيرم دراسي.. وما أدراك ما الدراسة!


ابني عبدالرحمن أخذ إجازة من عمله بضعة أسابيع ليتفرغ لي تمامًا وقد أجهد نفسه طيلة فترة العلاج ولم يتركني لحظة.. يتابع حالتي مع الأطباء ليل نهار، ويقوم بعمل ما يلزم من إجراءات وما يطلبه المركز الطبي العالمي.. وقد شاركه العبء ابنتاي الدكتورة لبنى والمهندسة لمياء اللتان بذلتا جهدًا كبيرًا وتخلتا عن أولادهما الذين هم في مراحل تعليمية مختلفة، ويحتاجون إليهما كما يحتاجون لجهد آخر ومتابعة من نوع خاص نظرا لطبيعة المرحلة السنية.. حتى اجتزت بفضل الله هذه المحنة وعدت إلى بيتي.


فوق سرير المرض عشت أيامًا ثقيلة لم أستطع أن أحصيها خصوصًا ساعاتها الأولى التي حيرت الأطباء الذين ظلوا يتابعون حالتي  بدأب واهتمام ولعل أهم ما حيرهم هو الارتفاع المستمر لحرارة  جسمي دونما سبب واضح رغم كثرة ما أجريت من تحاليل حتى هداهم الله لسبب العلة وأصل الداء..

 

وظللت أتلقى العلاج بين جدران المستشفى؛ تارة في غرفة عادية، وتارة أخرى في "نصف رعاية"، إلى أن كتب الله لي الشفاء الذي هو يقينًا من عند الله وحده.. ما أدخل السكينة إلى نفسي ما قرأته على باب المستشفى من قوله تعالى "الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ"..

 

تأملت الآية كثيرًا وعشتها بيقيني واقعًا حتى استجاب الله دعائي ودعاء المحبين بالشفاء، وغادرت المستشفى ممتنًا لمن فيه من أطباء وطاقم تمريض وجدت منهم أقصى درجات التفاني وحسن الأداء، على أن أعود إليه لتلقي جرعات أخرى للعلاج على فترات منتظمة حتى تزول العلة ويتلاشى الداء.


والحق أني وجدت نظامًا عجيبًا يتبعه المستشفى الذي يكتب على كل حجرة إسم الطبيب المعالج للحالة ولا يصرف أي دواء للمريض إلا بعد التأكد أنه لا يتعارض مع دواء آخر، حتى لا تحدث مضاعفات كتلك التي نراها مع حقن المضاد الحيوي التي قد تؤدي للوفاة في بعض الحالات كما حدث مؤخرًا..

 

أما عن النظافة والتعقيم فهما بأحسن ما رأيت.. ولم تجد من يطلب منك إكرامية أو حتى يقبلها إذا هممت أن تدفعها إليه عن طيب خاطر وليس كما يحدث في مستشفيات حكومية يطلب بعض من فيها ذلك بألسنتهم، ناهيك عما تعج به من  إهمال صارخ وأخطاء طبية قاتلة وسوء نظافة فجة ومطالبات لا تنتهي!


لقد تمنيت أن تصبح كل مستشفياتنا الحكومية بنفس الدرجة من الاهتمام والنظافة والتعقيم وإتقان العمل التي وجدتها في المركز الطبي العالمي أو حتى قريبة منه.. ليظفر المواطن البسيط بالعدالة الصحية، وهو ما نتمنى أن يتحقق بمنظومة التأمين الصحي الشامل التي بدأ تنفيذها في بعض المحافظات تمهيدًا لتعميمها في سائر أنحاء الجمهورية.. وحتى يحدث ذلك فماذا يمنع أن تكون خدمات مستشفياتنا كلها بمعايير وبروتوكولات علاج واحدة؟!

 نعمة الصحة والعافية


تجربة المرض كاشفة للضعف الإنساني ولمعادن البشر وقدرة الإنسان على التحمل والتمسك بالأمل والتسليم بقضاء الله.. هي محنة يعقبها منحة تقودنا لإدراك ما نحن فيه من نعم صرنا لا نشعر بها للأسف لكثرة ما اعتدنا عليها في حياتنا؛ فثمة نعمتان مغبون فيهما ابن آدم: الصحة والفراغ؛ أما الصحة فهي معرضة للانتكاسة بالمرض، وأما الفراغ فلا يجده بعض الناس لكثرة شواغلهم التي يغرق البعض فيها حتى تصدمه الحياة في نفسه أو أقرب الناس إليه وقد لا يتوقف أبدًا حتى يقضى الله أمره.


الصحة نعمة كبرى يمن الله بها على عباده، بل هي أعظم نعمة بعد الإيمان؛ لأنها تساوى الحياة، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ما أُوتي أحد بعد اليقين خيرا من معافاة»، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها خيرًا من الغنى قال: «لا بأس بالغنى لمن اتقى والصحة لمن اتقى خير من الغنى وطيب النفس من النعيم».. ويقول أيضًا: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ».. ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله العافية واليقين فما أعطي أحد بعد اليقين شيئًا خيرًا من العافية فسلوهما الله تعالى».


العافية، هي أن يسلم الإنسان من الأسقام والبلايا في عقله وبدنه وأهله وولده، وهي من أسباب سعادة المرء في دنياه، فمن أدركها فقد أدرك خيرًا كثيرًا..والصحة نعمة لا ينتبه لها المرء غالبا إلا عند السقم، لذلك قال الحكماء، الصحة تاج على رء وس الأصحاء لا يراه إلا المرضى. 


لاشك أن ما توصل إليه العلم في أبحاثه بخصوص صحة الأبدان، فيها وحدها من النعم ما لا تستطيع نفس بشرية أن تدركه، وكلما أوغل علم الطب في أبحاثه واكتشافاته، أدرك أن قيمة هذه النعمة فوق تصورات البشر. 

المرض محنة ومنحة


الكتابة عن تجارب المرض أصدق حديثًا وأبلغ تعبيرًا عن خبايا النفس البشرية وهنا أكرر مع الكاتبة غادة صلاح سؤالها: هل الحديث عن ذكريات المرض سيزيد من ألم هذا الوجع؟ أو ربما يكون سرد الحكايات بمثابة علاج للوجع؟ أو ربما سيتشابكان وتتعقد الأمور أكثر؟ أو ربما تجربة الكتابة عنهما ستفض هذا الاشتباك؟..

 

وأقول ربما تكون الفضفضة طريقًا للراحة النفسية وشيئًا من شكر النعمة؛ ذلك أن فضل الله عظيم علينا في كل شهيق وزفير "وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا"، "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا".. وهي من باب "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" وهكذا هو الشفاء نعمة تستوجب الحمد والشكر لله واهب النعم.


 بين  المرض والتعافي مراحل يعيد فيها الإنسان اكتشاف ذاته والمحيطين به بين تنويعات الألم الذي الذي يتسلل للجسم بلا رحمة، وبين لحظات الضعف والاستكانة وأمنيات عريضة بالخروج من متاهة الطب وطرائق العلاج.. وهنا تظهر معادن البشر، من يتحملك في مرضك، ومن يديم السؤال عنك بلا انقطاع، ومن يدعو الله مخلصًا من قلبه حتى يمن عليك بالشفاء رجاءً لا ينقطع ورحمة تشعرك بالدفء وتحنو عليك في الضعف..

 

شتان بين هذا الصنف الطيب.. وبين من تلهّى بالحياة وانغمس في مشاغلها ونسي السؤال عنك أو الاطمئنان عليك حتى ولو من وراء هاتف لن يكلفه الاتصال منه شيئًا يذكر.. والذي أحاول جاهدة حتى اليوم التعافي منه. وهو ذلك الألم النفسي الشديد الذي قد يتحول إلى أمراض فتاكة.


المرض محنة ومنحة؛ وتجربة تشعر بعد التعافي أنك ولدت من جديد بروح جديدة ومفاهيم مغايرة ورؤية أعمق فهمًا لذاتك وللبشر والأشياء من حولك.. تعود للحياة مدركًا حقيقة الدنيا التي لا تساوى عند الله شيئًا تزداد قناعة بأن متاع الدنيا قليل مهما بدا لك غير ذلك، وأن الرضا أهم ما فيها وأن السعادة الحقيقية في داخلك فابحث عنها في ذاتك وإيمانك وصبرك ورضاك وأن أهم ما فيها الشعور بالأمن والعافية  وامتلاك ما تستقيم به حياتك من مأكل ومشرب.. 

 

 

يقول الشاعر:
إذا ما كساك الدهرُ ثوبَ مصحَّةٍ * ولم يخل من قوت يُحَلَّى ويَعذُب
فلا تغبطنّ المترَفين فإنه * على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب 
تجربتي مع المرض أرويها بصدق لاستخلاص الدروس والعبرة والتذكير بنعم الله علينا؛ لعلها تفيد من يقرؤها فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

الجريدة الرسمية