الكروش المتخمة
يبدو أن هناك اتفاقا غير معلن، بين فئة من تجار المواد الغذائية، على إشعال الأسى والحسرة فى قلوب أرباب الأسر دائما، بالوثب على أقواتهم بشكل دوري، والانقضاض على ما في جيوبهم، ونهش ما بها من جنيهات.
في اليوم التالي لاندلاع الأحداث في أوكرانيا، هممت بشراء بعض المستلزمات الغذائية، ومن عند عم ماهر البقال، الذي يعرفني وأعرفه جيدا بحكم جيرة المنطقة لسنوات، سألته عن سعر منتج ما، وهو ما أفعله دائما حتى ولو كنت سألت عن السعر قبل هذا الوقت بساعة، فأجابني بالسعر، ووافقت من فوري على الشراء العاجل فرحا وطربا بثباته، طالبا عبوة.
هممت بإخراج النقود من حافظتي، منتشيًا بثبات السعر بعد أن رفعه عم ماهر وزملاؤه منذ فترة قليلة، فإذ به يخصم من باقي النقود جنيهات أكثر من المطلوب، سألته بدهشة: "عم ماهر لسه 3 جنيه كده؟!"، فأجابني بكل دهاء: "نسيت أقول لك إنه رفع إمبارح بالليل"، زاد اندهاشي ممتزجا بغضبي المكتوم قائلا: "رفع؟!"، قال لى في هدوء وثبات: "ولسه ها يرفع تاني علشان الحرب".
ضبط الأسواق
وأخرج لى من طيات ملابسه، بينما انعكاس الشمس على فص خاتمه الفضي الضخم يضرب عينى، ورقة لا تبدو منها ملامح أية كتابات، مقسما إلى بـ"الطلاق من زوجته" أن ما بها هو السعر الجديد. "حرب ايه يا عم ماهر دى، لسه تأثير الحرب مش هيبان دلوقتى حرام كده"، قلتها وأنا أستشيط غضبا متمتما بعبارات اللعنة على عم ماهر، فيما ينظر إلى بكل مكر قائلا: "أنا كمان زيي زيك حالي هيتوقف"، أعقبها تغليظ الإيمان بأنه يبيعها لي بسعر الجملة من أجل عيونى وبحكم الجيرة فقط، وأن الحرب عليها اللعنة رفعت سعر كل شيء!.
شردت لثوانٍ، وعادت بي الذاكرة وقت أن كان أبي رحمه الله بإذنه تعالى، يحكى لى عن أزمات الحروب، وتجارها الملاعين المحتكرين، وتجسد المشهد أمامي واقعا، ولكن بنكهة الألفينات، مع ممارسات غير منضبطة، وسباق محموم بين فئة من التجار وليس كلهم، منعدمة الضمير والأخلاق، تصر على نهش قوت المواطن، من أجل ملء كروشهم المتخمة، وتعبئة مخازنهم بالبضائع، والتلاعب فى أسعارها، وتخزينها وإخراجها وقتما شاءوا.
نلحظ أن تلك السرقة العلنية لا تتم بهذا التوحش إلا فى مجال المواد الغذائية، كونه الأوحد الذي لا يمكن للمواطن الاستغناء عنه مطلقا، لأنه مهما ارتفعت الأسعار، فهو مضطر آنفا إلى الشراء بأي سعر ومهما بلغ ومهما كان.
نشكر جهود الدولة ممثلة في وزارة التموين والتجارة الداخلية، وكافة أجهزة الدولة الأخرى، فى التصدي لهؤلاء الفاحشين، من خلال الحملات المستمرة لضبط الأسواق، ومن خلال فتح العديد من منافذ بيع السلع التي تقي المواطن من الوقوع فى براثن أجساد منعدمة الضمير.
ولكن، هل يدرك هذا التاجر معدوم الأخلاق، الذي لا يضع الله نصب عينه، أن تربحه من دماء الناس ووجعهم وتعبهم، هو أكل السحت وحرام مطلق، سيعود عليه وبالا وجحيما في صحته وأسرته، وسيذهب إلى خالقه مجردا من كل هذا إلا من دعوات الغلابة باللعنات، وحتى لا يتم التعميم فهناك فئة من التجار يراعون الله في تجارتهم وأرزاقهم،، ليت عم ماهر ورفاقه يتعظون ويرفقون بالبطون.