رئيس التحرير
عصام كامل

ما بين الدين والإنسانية

خلال زيارته لفرنسا كان حديث الرئيس عن القيم الإنسانية والقيم السماوية المقدمة عنها، قدم حوارا مفرداته منتقاة بعناية لا لبس فيها، وكانت مداخلة ماكرون عصبية عنيفة يؤكد فيها على قيم عصر التنوير التي تقدم قيم الإنسان عن أي شيء آخر ثم نظر للرئيس قائلا: لا يجب خلط الدين بالسياسة.. الرد في حد ذاته يعد إقرارا ضمنيا من ماكرون  بخلط حقوق الإنسان بالسياسة أي تدنيس القيم الإنسانية بملعب السياسة القذر..


الأديان كلها وجدت وأحد روافدها الإنسانية لتقضى على الهمجية والرئيس عبر عن ثوابت الدولة والأمة ولا حرج أن تقول فرنسا العلمانية إنها تعلى الانسانية ولا حرج أن يقول السيسى ثوابت الدين كله وليس الإسلام، وهو أمر يحترم من الجميع فلا تنازل لطرف لطرف آخر، كل بثوابته.. وقد يفيد وهو حوار لا يثبت الإاتساع المتزايد في فجوة الثقافات بين الشرق والغرب فحسب..

ملايين شيوخ الفضائيات

هو تأكيد أن هذا العالم يقاد فعليا من عالم من الإلحاد يتستر خلف الديانات ولا توجد قيمة إنسانية راقية لم تأت ضمن أطر قيم الدين بأفهامه الصحيحة لكن هناك قيم إنسانية معترف بها وترفضها القيم الدينية منها زواج المثليين والعلاقة ببن الرجل والمرأة خارج إطار الأسرة وهذا الجدل أو الحوار يمكن لو التقطه قادة الرأي من غير الرويبضة لصنعوا منه "جسراً ذهبياً" يوصل ما بين الشرق والغرب والشمال والجنوب طالما عجز كل من سبقوهم عن تشييده بإخلاص وأمانةً..


والرئيس عندما قال إن القيم الدينية تعلو على القيم الإنسانية لم يكن يُنظر ولكنه عبر عننا نحن المصريين (مسلمين ومسيحيين) وغير مطلوب منه تبنى قيم مجتمع آخر. وهذا لا يمنع أن نحترم قيم الجميع وحرية اختياراتهم.

والملاحظ أنه حتى الذين تعمدوا في مطلع العصر الحديث بالغرب، فصل الأخلاق عن الدين، إنتهت بهم هذه المحاولات إلى ابتداع أخلاق مستقاة أصلاً من قيم ومفاهيم دينية سابقة، وتلبس لبوساً دينياً متنكراً، سواء صرحوا بذلك أم أخفوه؛ كما حاول ذلك كل من كانط وأوجيست كونت وأمثالهما من المنظرين الأوائل للفكر العلماني.

وبذلك يتأكد أن «لا دين بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير دين» خصوصاً إذا علمنا أن الدين في جوهره لا يفصل بين الشعائر والممارسات الظاهرة وبين الثمار النفسية والآثار الْخُلقية المعلّقة على تلك الشعائر ذلك لأن "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر" و "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" و"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" وقبل ذلك "فإن الإسلام رسالة قيم وأخلاق في الدرجة الأولى، حتى صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» مختصراً رسالته في هذه المُهمة الأخلاقية..

أغلبية أتلفها الهوى

ولا غرابة في ربط الإسلام الأخلاق بالعقيدة، حتى نفى الإيمان عمن لا أمانة له، وعمن بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع، وعمن زنى أو سرق أو شرب الخمر، وجعل من لوازم الإيمان: صلة الرحم، وإكرام الجار، وقبول الخير: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» وهكذا فأن الإسلام رسالة قيم وأخلاق يدعو إلى التسامح والصدق والعدالة والحرية وغير ذلك مما ينادي به الغرب في زماننا هذا. فقد نادى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وصفه ربه بأجمل الأوصاف حين قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}

وكانت  البشرية قد اكتسبت عبر تاريخها الطويل قيما إنسانيةً عليا، ولم تبلغ تلك القيم كمالها إلا حينما اتصلت بخالقها عن طريق الرسالات السماوية، ولكن حينما تسود أهواء البشر، تُخلِد الإنسانية إلى الأرض، فتضِل وتنحَط قِيَمُها، والإنسان خاسر - لا محالة - إلا إذا حقق أربعة شروط: هي الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهذا هو ما أكد عليه القرآن الكريم منذ نزل على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة..

 فقد أُنْزِلت سورة تحمل اسم "العصر"، ومع قلة عدد كلماتها فإنها تُمَثِّل الطريق الذي يهدي الإنسان إلى الفوز، فيها يقول تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ وإذا كانت كلمة "الإنسان" على كثرة ذكرها في القرآن الكريم (56 مرة) قد جاءت تكشف في الإنسان صفات سلبية؛ حيث خُلِق الإنسان ضعيفًا، وهو يؤوس، قنوط، كادح، كنود، ظلوم، جهول، جَزُوع، إلى غير ذلك من الصفات الذميمة..

غثاء الترندات المزيفة

 فإن الإسلام في الوقت نفسه قد بين السبل والوسائل التي تأخذ بذلك الإنسان؛ لترتفع بصفاته السلبية، فتُحَوِّلها لتصبح صفات إيجابية، وهنا تكتسب البشرية قيمًا إنسانية، تعلو على الأهواء والأنانية، قيمًا تتسم بالسماحة دون العناد، والإخاء دون العنصرية، والمساواة دون الفرقة، والتعارف دون الرفض، والإيثار دون الشُّح، والعدل دون الظلم، والرخاء دون الفقر، والرحمة دون القسوة، والتعاون على البر دون الإثم والعدوان.

والإنسان الضعيف أمام النساء جاء الإسلام يُوجِّه شهوته في وجهتها الصحيحة بالزواج الشرعي ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾.

والإنسان اليؤوس القنوط، جاء القرآن ليعالج يأسه وقنوطه بالصبر: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾.

والإنسان المستصغِر نعمة الله عليه جاء القرآن ليعالج استشعاره بالعَوَز بتذكيره بنعم الله التي لا تُعَدُّ ولا تحصى: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾.

والإنسان المتكبر الذي يخاصم ربه لسوء تقديره لمقام الله، يجيء القرآن ليرده إلى حقيقة خلقه الْهَيِّن: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).
الجريدة الرسمية