كيف تحول آلامك لضحك
كنت طفلا، حين عقد قران إحدى قريباتي، وأقيم حفل زفافها في حلوان، حيث تسكن عائلتها، بينما كان علينا توصيلها إلى بيت الزوجية في دمياط.
وكان المشهد كالتالي: طابور طويل من سيارات
الميكروباص تعج بالمعازيم، وهم غالبا من أهل العريس والعروس والجيران والمعارف والأحباب،
إضافة إلى سيارة ملاكي حديثة مزينة بالورود والشرائط الملونة، يجلس داخلها العريس وعروسه
وأختها، إلى جوار السائق، الذي لم يتوقف لحظة عن إطلاق الكلاكسات، كواحد من طقوس الزفاف
والإشهار..
ذئاب لا تأكل الفحم
وقتها كنت ذلك الطفل الخجول، الذي أجلسوه
في سيارة ممتلئة بالبنات، اللائي صبغن شعورهن ووضعن الأحمر والأخضر، حتى إنني خلت وقتها
وكأني في الجنة بين الحور العين..
ساذج أنا حين أظن أن الحور العين يصبغن شعورهن بالحناء ويضعن المساحيق، لكنه خيال طفل لم يتمكن يوما من التمييز بين البنات والصبيان في هذه المرحلة إلا بوجود الشارب الخفيف، وقطعا كان ذلك الشارب يميز البنات لا الصبيان.. إنه شنب الإعدادية الشهير.
إلى هنا والأمر يسير على ما يرام، إلى أن
بدأت الدراما الحقيقية، حين جاء أحد أشقائي الأكبر مني، وأنزلني من السيارة ليأخذ مكاني
هو بين الحسان، فتبرمت وبرطمت لكنه أصر على أن أركب أنا سيارة أخرى..
لم يكن لي أن أقبل بذلك التغيير المفاجئ،
لكن حاجتي في تلبية نداء الطبيعة كانت أقوى، فقلت هذه فرصتي كي أدخل بيت الراحة «علشان
أعمل زي الناس»، لكن لأن الدراما يجب أن تتواصل قال أخي «مفيش وقت العربيات هتمشي»،
فذهبت للسيارة التي أشار إليها كي أتبوأ مقعدي بين باقي ركابها..
المرأة فخ.. اهرب يا ياسين
فتحت باب الميكروباص، متفحصا الوجوه فوجدت
كل ما فيها رجال أشداء تقف على شنباتهم الصقور، كلهم من أهل العريس، ويبدو أنهم جميعا
كانوا يرفضون تلك الزيجة، إذ أنني طوال الطريق لم ألمح ابتسامة على وجه أحدهم، بل إن
كلمة واحدة لم تخرج من أسفل شارب أيا منهم منذ انطلقت السيارة، بينما أنا أتلوى من
الألم، بعدما بدأت الطبيعة تصرخ في كي ألبي نداءها!!
مضت السيارة تقطع الطريق، بينما أنا أتقطع
من داخلي، لكنني لم أجرؤ على أن أطلب من السائق أن يتوقف في أي مكان كي أقضي «الحاجة»،
فكيف لي أن أغامر بمثل هكذا طلب بينما كفار قريش يحيطون بي من كل صوب وحدب؟!
وما زاد الطين بلة أن سائق الميكروباص لم يكن يعرف الطريق إلى دمياط، لهذا فهو مضطر للسير خلف سرب السيارات كي لا يضل الطريق، لهذا قلت في نفسي «امسك نفسك يا بطل»، معتقدا أن المسافة إلى بيت العريس لن تكون طويلة، خاصة وأن معلوماتي الجغرافية عن دمياط لم تكن كافية لحساب الزمن المستغرق للوصول من النقطة أ (حلوان) إلى النقطة ب (دمياط ) تحديدا بيت العريس.
واصلت السيارة السير، بينما أحشائي تشكو
لله غبائي وضعفي وقلة حيلتي.
في هذه الأثناء بدأت أفكر في سيناريوهات
محتملة، هل أضعف وينتصر الطفل داخلي وأحول السيارة إلى مراحيض عمومية ثم أبكي للهروب
من المسئولية، أم استدعي البطل الكامن داخلي وأتماسك حتى النهاية، فالطريق يطول ولا
أمل يلوح في المراية!!
نحن لا نزرع الفلوس
أظن أنني دخلت في غيبوبة للحظة، وفيها حلمت
بأنني ذهبت إلى المستقبل شابا يافعا يستلقي على قفاه من الضحك وهو يحكي لأقرانه تلك
الحكاية العجيبة عن طفل تحدى نداء الطبيعة من حلوان إلى دمياط لخمس ساعات، إلى أن وصل
وقضى حاجة كانت لتقتله مبكرا لتخسر الإنسانية رجلا هي في أمس الحاجة إليه.
منذ ذلك اليوم، وأنا أحكي هذه الحكاية مصحوبة
بزفة من الضحك والسخرية، ورغم صعوبة التجربة إلا أنني خرجت منها بحقيقة واحدة وهي أن
آلام اليوم حتما ستصبح ضحكات في المستقبل حين نتذكرها.