رئيس التحرير
عصام كامل

نحن لا نزرع الفلوس

حين كنت أحبو في عالم الصحافة، سألني أحدهم لماذا اخترت هذه المهنة بالذات، فمنحته حفنة أسباب من بينها أنني «فنان» يحب الكتابة ويكره أن يكون موظفا، إلى أن صرت صحفيا بدرجة موظف يداوم منذ الصباح حتى تغرق الشمس في البحر، ليؤدي عملا روتينيا مقابل مرتب شهري ثابت أينما كنت.

وإذا كان سيد المخدرات بابلو سكوبار قال – كما يشاع - إن «لا أحد يصبح غنياً بالعمل من 8 صباحاً حتى 5 مساء»، فإنني أقول «لا أحد يصبح غنيا بالعمل شيفتين».

فكل الأشياء تولد صغيرة وتكبر، إلا المرتب يولد كبيرا (في أعيننا) ويصغر بمرور الديانة.. لهذا أطلق على مرتبي اسم «عمرو دياب» مطربنا المحبوب الذي يصغر عاما بعد آخر، حفظه الله من عيني وعين اللي شافه ولا صلاش على النبي.

 

حكايات نائمة على الرصيف 


وبرغم أننا (ذوي المرتبات) لا يحق لنا أن نحلم بأكثر من الستر، فإن الستر نفسه أصبح عزيزا في أيامنا هذه، فقبل أيام ضغط بدون قصد على رابط إعلان لإحدى الشركات العقارية، وفورا وجدت هاتفي المحمول يرن، وكأن الشركة قد وجدت ضالتها المنشودة، أو ربما حسبوني ممن تكتظ حساباتهم في البنوك بالأرقام ذات الستة أصفار، وليس في ظنهم شيء من الصحة إلا الأصفار، فلو أنهم اطلعوا على حسابي البنكي لبكوا دما، ولأغلقوا في وجهي الخط.

خلال الاتصال قالت لي موظفة رقيقة الصوت إنني محظوظ، إذ أنها كانت تحمل لي عرضا لا يمكن تفويته، حسب ظنها، فلما سألتها عن «العرض»، قالت إنني إذا اشتريت «وحدة» خلال هذا الأسبوع سوف أحصل على خصم 5 في المئة!!

يا الله، 5 في المئة، لابد وأنها ليلة القدر (بغض النظر عن أننا في ذي القعدة)..

لا أخفيكم سرا، أنا فرحت بالعرض والخصم، ما دفعني لأن أنجر من لساني وأسأل «الأمورة» عن ثمن الوحدة.. برغم أنني «وحيد» وأعرف ثمن الوحدة.

بمجرد أن ردت عليّ الموظفة الرقيقة بصوتها الحالم الناعم، أغلقت الخط في وجهها فورا، واتصلت بالخط الساخن للشركة، طالبا محادثة المدير أو أعلى رتبة في هذه المخروبة، وحين حدثني الرجل مذعرا ملهوفا قال: «تحت أمرك يا فندم، هل أغضبك أحدهم؟».. قلت له منفعلا: «وأي غضب! لقد أهانتني موظفتك المحترمة»..

 

 الصحافة فين


بهت الرجل وقال بصوت خفيض: «أنا آسف يا أستاذ سوف أعاقب هذه الموظفة حالا، لكن اشرح لي ماذا فعلت بالضبط.. هل شتمتك لامؤاخذة.. هل تنمرت عليك.. هل سخرت منك في شيء.. هل وهل وهل.. ؟؟».

كفكفت دمعاتي التي انسابت على خدي، وأخبرته أن ما فعلته الموظفة يفوق التنمر والسباب والسخرية، لقد ضربتني في وجهي بأسعار الوحدات.. أهانت راتبي.. جرحت كرامة ثروتي.. هتكت عرض حسابي البنكي.

انتهى كلامي، وبقي الرجل صامتا لبرهة، ثم سألني في هدوء عن مجموع ثروتي وحساباتي في البنوك، ولا أعرف لماذا حين أخبرته بتحويشة العمر تمتم ببعض الشتائم وأغلق الخط وهو يبصق تقريبا!

الجريدة الرسمية