رئيس التحرير
عصام كامل

ذئاب لا تأكل الفحم

سألت الكبابجي عن أسعار ما يقدم لزبائنه من مشويات ولحوم، فتبسم وأخبرني أن كل ما يقدمه للناس لحوم بلدية مضمونة مئة بالمئة، ثم راح يتلو على مسامعي قائمة بأسعار أقل ما يمكن أن توصف به أنها تنمر على أصحاب الدخول المحدودة من شاكلتي..

 

ولما كان العامل المشترك بين كل ما يقدمه من مأكول هو أنها مشوية على الفحم، طلبت منه كيلو فحم بلدي صافي (على قد فلوسي)، فنظر لي نظرة لا تحتاج إلى تفسير، ثم أخذ قطعة فحم مشتعلة وألقاها إلى الطريق، فاقترب منها كلب يشبه الذئب وما إن شعر باللهيب الخارج منها أسرع مبتعدا، ثم عاد الرجل ببصره نحوي ولسان حاله يقول: غور من هنا ياض!!

شرفة صغيرة
رأسي شرفة صغير تطل على أكبر شوارع المدينة يجلس فيها رجل وامرأة عجوزان لا يعرف أحدهما الآخر لكنها ابدا لا يكفان عن الصراخ الممزوج بصوت المذياع وضجيج الشارع، هو يريد أن يصنع من الجريدة في يده قاربا يعيده إلى الرفاق، وهي تكسر المرآة لأنها تعكس صورتها رأسا بلا جسد..

بهلوانات السلطان.. «أنا ضد مصر» 

وهناك تجلس قطة تقضم ذيلها الذي تحول إلى زعنفة حادة، وإلى جوارها فردة حذاء بالية تبحث عن زوجها الذي رحل عنها قبل ألف ميل، وبالقرب منهما نبتت شجرة بلوط فروعها محنية منذ خذلها الحطاب الذي كانت تظنه صديقها، أما ذلك الحصان الذي يصهل بصوت مبحوح فقد كان طفلا بعين واحدة تدمع دما متحسرا..

 

وذلك السقف الذي يعلو المشهد هو في الأصل رجل عاطل ماتت امرأته وهي تحلب البقرة التي باعت ضرعها لمصنع الحليب المجفف، فيما تقف أعمدة النور محنية الرأس تتأهب لاستقبال الملك الجديد، بينما هذا الجدار المتآكل كان قبل عام واحد فقط عازفا أنيقا فقد نايه في الحرب الوحيدة التي خاضها ضد نفسه.

ماسح الأحذية
يأسرني مشهد ماسح الأحذية الذي يقوم بعمله في سلام ومحبة.. لا يكتفي بحركة يده التي تمسح الحذاء، إذ يحرك رأسه وكذا يده الأخرى في إيقاع منتظم وكأنه ناسك في حلقة ذكر.. لا يرى في عمله وضاعة ولا انتقاص من كرامة..
المرأة فخ.. اهرب يا ياسين
زبائنه يضعون أقدامهم داخل أحذيتهم على صندوقه الخشبي وهم يتابعون المارة أو يختلسون نظرة نحو فتاة عقدت خصلات شعرها خلف رأسها وهي تعبر الطريق.. بينما هو منهمك في عمله بصفاء وانخراط فنان تخضبت يده بألوان فقيرة..

فإذا انتهى من فردة حذاء ضرب بظهر فرشاته على الصندوق في إيقاع مدهش،
ليضع الزبون فردة الحذاء الأخرى قبل أن يواصل الرجل الطيب عمله في رضا..

الشارع الجديد
ظلت قريتنا مجهولة إلى أن شطر كبدها الشارع الجديد ذلك الطريق المرصوف الذي نبتت حوله مصانع الطوب المسلوخ من رحم الأرض التي جرفوها..

ثم سرعان ما انتشرت المقاهي والكافتيريات حول الشارع لخدمة عمال المصانع وسائقي الشاحنات الكبيرة.. وعلى استحياء دخلت واحدة من هذه الكافيتريات، أحمل على ظهري حقيبتي مرتديا المريلة البيج، فتعرفت فيها على «اللانشون» لأول مرة في حياتي، فلم نكن نعرف وقتها من السندوتشات سوى الفول والطعمية والبطاطس..

 

الفلسفة الحزلقومية في الأعمال الإسبانية

  

عجيب هذا اللانشون، إنه يشبه اللحم لكنه بارد وشرائحه رقيقة.. تذوقته فأعجبني طعمه.. بات روتيني اليومي أن أوفر مصروف المدرسة لشراء سندوتش لانشون ورغيف فينو إضافي فآخذ بعضا من حشو هذا الرغيف واضعه في الرغيف الحاف ليصبح لدي سندوتش آخر إضافي.. كنا نصنع متعتنا بما تيسر.. ننفخ في الفرحة لتصير البالون الكبير الذي يحملنا إلى القمر..

حذاء مستعمل
اشتريت حذاء مستعملا، وعندما عدت للبيت اكتشفت داخله قدمين تركهما المالك الأصلي فيه، إذا لم تعد له حاجة لهما بعدما فقد حبيبته التي كان يمشي إليها عشرين ميلا كل يوم.. ليس لقدمي مكانا في الحذاء لكنني أصحبه حافيا كل صباح في رحلة الأميال العشرين، لأشاهد أطلال منزلها، حيث نبتت بين الحطام زهرة أوركيد ترقص وحيدة وهي تروي قصتهما للعابرين.


الجريدة الرسمية