رئيس التحرير
عصام كامل

ناصر.. ولا يطولوه العدا

يوم 10 يوليو سنة 1952 كان عبدالناصر مع أسرته يعبرون بسيارتهم الطريق الزراعي في طريق عودتهم إلى القاهرة بعد إجازة قصيرة في الإسكندرية عندما لاحظت زوجته أن الطريق الزراعي عبارة عن أراض مملوكة لأمراء وباشوات كُتبت أسماؤهم في لافتات صادفتهم طوال الطريق فقال لها جمال عبدالناصر معلقًا (لن يكون هناك أراض ولا تفاتيش يملكها أمراء ولا باشوات!)

 

لم تفهم زوجته المقصود بكلماته إلا بعد أيام عندما اندلعت الثورة التي أنصفت الفقراء.. وبالرغم من مرور خمسة عقود على وفاة عبدالناصر.. وثمانية وستين عامًا على اندلاع الثورة..

 

إلا أن العداوة لا تتقادم مع مرور الزمن.. تراها واضحة في تعليقات منتشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحمل بصمات أتباع جماعة الإخوان الإرهابية أو تدوينات صفحات إسرائيلية ناطقة بالعربية تخصص وقتها لتوجيه سهام السخرية إلى ذكرى الرجل.. وغيرهم ينساقون وراءهم..

اختراق جديد للمنصات الاجتماعية 

ووسطهم أصحاب انتقادات حقيقية تتحدث عن إنجازات الرجل بقدر ما تتحدث عن إخفاقاته فهو من انطبقت عليه كلمات أحمد فؤاد نجم (عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت.. وعاش ومات وسطنا على طبعنا ثابت.. وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت.. ولا يطولوه العدا.. مهما الأمور جابت).


الرجل أصاب وأخطأ ولا يحظر انتقاده ولكن وجب التنبيه إلى أن بعض من يسخرون منه ويحولونه لهدف لا يشغلهم إلا خوفهم من تكرار تجربته فيحاربون ذكراه لكنها باقية بيننا مهما حاولوا تشويهه، ولهذا أتذكر اليوم ما كتبته قبل عامين بمناسبة مئوية الزعيم جمال عبدالناصر

 

تؤلمني مشاهد الغروب.. اختفاء الشمس وذوبانها وتحلل ضوئها، وبداية الظلام ولسعة البرودة التي نتحملها انتظارًا لبداية النهار الجديد.. وربما كانت تلك الليلة أيضًا باردة عندما انتقلنا من منزلنا في بحري للإقامة في منطقة محرم بك بالأسكندرية حيث اكتشفت أن في شارعنا الجديد أمورًا رائعة أكثرها جمالًا منزل لأحد أقارب جمال عبدالناصر.


كانت ذكرى "ناصر" تطل أحيانًا في رأسي كلما مررت في طرقات الشارع حيث أتخيله صغيرًا مع أهله في طريقهم لإيصاله إلى روضة الأطفال في محرم بك، أو أراه طفلًا بدأ وعيه يتشكل حتى تمكن من الاعتماد على نفسه في الذهاب إلى مدرسة العطارين الإبتدائية حيث درس لمدة عام، أو تطاردني خيالات الرجل بقوة حتى اصطدم بصورته المعلقة في "مخبز" أخبرني يومًا أصحابه بلهجة صعيدية أنهم أقاربه.

ميليشيات أردوغان الإلكترونية
وُلدت بعد وفاة عبد الناصر بعشرين عامًا في مستشفى لا تبعد إلا دقائق قليلة عن مدرسة رأس التين التي درس بها الرئيس الراحل في المرحلة الثانوية، ولكنني لم أدخل مدرسته إلا بعد حصوله على الشهادة الثانوية بأكثر من ثمانين عامًا للإدلاء بصوتي الانتخابي في أحد فصولها، بعد أوقات عصيبة حملت مظاهرات حاشدة في ميدان المنشية بالمدينة..

 

وهو المكان الذي تظاهر فيه "ناصر" نفسه مطالبًا بسقوط الاستعمار وعودة الدستور، قبل أن يعود إليه زعيمًا يحاولون اغتياله تارة أو يصنع بكلماته الحلم في خطاب تأميم القناة.. كنا نمر في "المنشية" نطالب بسقوط الظلم، فيما حمل بعضنا صور "ناصر" للتعبير عن الاشتياق للعدالة الاجتماعية التي حلم بها الرجل قبل أن يتم إجهاض مشروعه ويصبح لحنًا لم يتم، ولوحة من الواجب إتمامها أيًا كانت الألوان المستخدمة أو طريقة الرسم.


لم تجمعني بناصر إلا خُطب سمعتها فوجدتها صادقة، وكتب قرأتها فوجدتها تُنصفه في بعض الأمور وتنتقدته في أخرى ولكنها أجمعت على وطنيته ونزاهته، وكلمات لعجائز ترحموا على رجل أراد لهم حياة كريمة، وقناعة داخلية بأن حكام مصر لهم ما أنجزوه أو أخفقوا في تحقيقه لذا لن يتواجد في القصة أبدًا ملاك مُنزه أو شيطان رجيم ولكن سيكون أبطالها بشر، أصابوا وأخطأوا، ولكنهم جميعًا صاروا جزءًا من ماضي واجب التعلم منه، واستكمال إنجازاته، ومعالجة عيوبة، وتجنب كوارثه.


كانت صور "ناصر" تختفي من عقلي ولكنها سرعان ما تعود، مثلما طاردتني قبل عشر سنوات حينما التقيت خالد محيي الدين، الثائر الذي صافحته كأنني ألمس قطعة من التاريخ، قبل أن أخبره بأنني قبل لقائه بساعة كنت عند قبر عبد الناصر أقرأ الفاتحة في زيارتي الأولى للعاصمة.

الصورة الذهنية للدولة
مرت سنوات أكثر لتلعب الصدفة مجددًا دورًا يقربني من عبد الناصر حيث وجدت مكتب عملي بالقاهرة قريبًا من مسجده حيث استراح للأبد من كثرة المسؤوليات، لأتذكر كلما مررت بجواره لقاءاتنا الخيالية في الأسكندرية والقاهرة وأرفع رأسي للسماء مترحمًا عليه بينما أتجاهل لسعة البرودة وقسوتها لأنني على يقين تام بأننا نستطيع تحملها انتظارًا لنهار جديد سوف نعيشه حتى لو بعد مائة عام من ميلاد "ناصر").


الجريدة الرسمية