دماء وطين
وهكذا استطعت بعد ساعتين من المشاهدة لفيلم البوسطجي أن أنهيه بالبكاء كالعادة.. الفيلم الذي تجنبت مشاهدته لسنوات قررت أن أشاهده اليوم بعين جديدة.. عين ناقدة تفهم التعبيرات التمثيلية علي الوجه.. الفيلم عن قصة "دماء وطين" للكاتب العبقري يحيي حقي، ويعد من الأمثلة القوية للغوص في النفس البشرية..
اقرأ أيضا: سأقود موتوسيكلا (2)
- مبدئيا لابد أن نعطي شكري سرحان هذا العملاق حقه في قدرته علي التعبير بالصوت وملامح الوجه عما يدور بداخله.. ولعلي هذه المرة بدأت وصلة البكاء مبكرًا تأثرا بقدرته علي الإيحاء للمشاهد بتأنيب الضمير.
- القصة تسبق عصرها بمراحل عكس ما تبدو عليه، حيث تدور أحداثها في ثلاثينيات القرن الماضي.
أولا، أوضح الفيلم انه كان يتم تدريس اللغة الإنجليزية عن طريق مدرسين أجانب، مما يعطي لنا فكرة أن من كان يتعلم الإنجليزية وقتها كان يتعلمها جيدا، وليس كما هو الحال في الثلاثين سنة الماضية، مما أفرز لنا حاليا أجيالا من المدرسين لا يتحدثون الإنجليزية جيدا..
وأذكر أنني اختلفت مع رجل من جنسية خليجية بث فيديو مباشرا أساء فيه كثيرا للمصريين، لأنهم لا يصلحون لتعليم اللغة الإنجليزية في بلده.. ويمكن أن نري دلالة هذا في فيلم عسل أسود حيث رصد الفيلم مستوي اللغة الإنجليزية مؤخرا فى مدارسنا.
اقرأ أيضا: سأقود موتوسيكلا (3)
ثانيا، حال القرية المصرية قديمًا بكل ما فيها والذي تناولته أعمال كثيرة أخري، ولكن أتوقف أمام مشهد موت الجاموسة، حيث كانت النساء تبكي حولها، فقال الغفير للبوسطجي: مالحقوش يدبحوها، وبيعيطوا أصل أكل الميت حرام، بس بكرة هتلاقيها متعلقة والناس بتشتري لحمتها، قال له إزاي دول بيعيطوا عليها قال الغفير بكرة تشوف.. في دلالة علي تناقض الموقف أكل الميت حرام بس برضو هيتصرفوا ويبيعوها والناس هتاكلها.. لاحظ الفكرة موجودة منذ قرن من الزمان..
ثالثًا، الأب الذي قتل ابنته وجسد دوره الفنان صلاح منصور الممثل الرائع، له أكثر من شق: الشق الأول.. استباحة جسد الخادمة التي توسلت إليه ألا يفعل وبعدها سلمتها زوجته لأهلها ليذبحوها، ثم تعرض الأب لموقف مشابه بحمل ابنته من رحم الخطيئة وقتلها وشالت أمها الطين علي رأسها..
الكاتب أراد أن يقول لنا ما تفعلوه بالناس سيفعل بكم.. وهي من أقوي الأفكار المعروضة بالفيلم أن تدفع ثمن أفعالك بنفس الطريقة.
اقرأ أيضا: «لم الشمل» في المعرض المصري للقطع الفرعونية بجنوب فرنسا
الشق الثاني.. واعتقد أن كثيرين لم يلاحظوه.. الأب به جانب متفتح في شخصيته، حيث أرسل ابنته لتتعلم لتصبح معلمة بعد تخرجها، ولكن سيطرت عليه أفكار الصعيد بقتلها بعد خطيئتها رغم أنه أخطأ نفس الخطأ، ورغم أن أهل القرية أيضا يخطئون ولكن هو عقاب الآخر علي ضعفه وتجاهل عقاب الذات التي ترتكب نفس الجرم.. وهي فكرة أيضا من أقوي الأفكار المعروضة في الفيلم، جلد الذات في شخص الآخر وهي إحدي الحيل النفسية للبشر بإسقاط أخطائهم علي الآخرين، وعقابهم بقسوة وكأنهم أبرياء من كل جرم.
اقرأ أيضا: الانتخابات الفرنسية بعيون «فرنسية مصرية»
الشق الثالث.. لم ينس المؤلف يحيي حقي وكاتب السيناريو صلاح موسي أن يضعا نظرة ألم شديدة علي وجه وعيون الأب وهو يحمل جسد ابنته بعد قتلها.. وهي دلالة علي أن هذا الأب كان يحب ابنته.. لأن في هذا الزمن وإلي الآن يوجد أباء يمكن أن يقتلوا بناتهم بدم بارد بأشكال مختلفة.. ولكنها العقلية المتخلفة العقيمة التي سيطرت عليه.. في دلالة أيضا علي أن العقل هو مصدر المشاعر، لو كان نفس الأب القاتل بالقاهرة والإسكندرية لاكتفي بتزويج ابنته لمن أخطأت معه وليس قتلها.
رابعًا، الفكرة الأخطر في الفيلم، أن البوسطجي الكاره لكل ما حوله من تخلف وجهل ووحدة وغربة وافتقاده لامرأة وونس في حياته أراد ان يعاقب هذا المجتمع بمراقبته وكشف فضائحه.. فسقطت في يده رسائل الحبيبين وتسبب بغلطة غير مقصودة في وضع الختم علي أهم رسالة فأحرقها.. كان يلف بين الناس ليصل بالرسالة الثانية لصاحبتها ومتفاعل مع الحبيبين كأنه يعرفهما ويشعر بقلق مرضي وتأنيب ضمير وخوف أداه شكري سرحان بصورة مذهلة..
وهي الفكرة التي ينفذها البعض بمراقبة الآخر إما بسبب الضيق والضجر أو الانتقام.. وهي إحدي العيوب النفسية القاتلة لصاحبها قبل الآخرين، والتي يمكن أن تتسبب في كوارث ولهذا أمرنا الله بعدم التجسس.
اقرأ أيضا: مصر والعلاقات الاستراتيجية لفرنسا في الشرق الأوسط
خامسا، سأنهي نقدي للفيلم بالفكرة الأجمل فيه، وهي جملة من ضابط المركز للبوسطجي: "حاول إنك تشوف حاجة تانية غير الجهل والطين.. خلي عينك تشوف الحلو علشان تقدر تعيش هنا" ومشهد للسماء والنخيل يصاحب الكلام بالمشهد..
هذه الجملة هي أساس علم التنمية البشرية، أن نري الجميل بحياتنا حتي نستطيع الاستمرار، فالسعادة أن نركز علي ما لدينا والتعاسة أن نركز علي ما ينقصنا، وأخيرا هذه كانت السينما المصرية والإبداع المصري منذ خمسين عاما، حيث أنتج الفيلم سنة 1968 ومن إخراج كمال حسين.