رئيس التحرير
عصام كامل

الانتخابات الفرنسية بعيون «فرنسية مصرية»


تابع العالم الانتخابات الفرنسية والتي لم تكن على تلك الصورة التي يتصورها البعض، فقد شهدت صراعا سياسيا شديدا قبل أن يظهر "ماكرون" إلى النور كرئيس، فنجد مرشح اليسار "آمون" في الجولة الأولى حصد نتيجة مخزية وهى 7 %، رغم أنه شاب ولا يختلف كثيرا عن "ماكرون"، لكنه دفع ثمن رفض الشعب لـــ"هولاند" القادم من نفس الحزب، أما "فييون" ممثل السياسة الكلاسيكية الذي كان قبل فضيحة الفساد الأقرب إلى الفوز فخسر بنسبة 19%، ويبقى "ميلانشو" زعيم أقصى اليسار الذي وصل لـــ 19 % أيضا، وهى نسبة كبيرة جدا في تقديرى على هذا الحزب الذي اقتنع بخطابه كثيرا من الشباب..


في النهاية وصل "ماكرون" و"لوبين" للجولة الثانية بنسب متقاربة 23% وهو وصول متوقع وليس مفاجئا، فـــ"ماكرون" الشاب الوسيم والمتحدث اللبق المدعم من البنوك الكبيرة، والذي تم تلميعه في شهور بعد تأسيسه لحركة "إلى الأمام" وهو في سياسته بين اليمين واليسار، وإن كنت أراه يساريا بدرجة أكبر وجذب انتباه الكثيرين بحديثه الذي لا أنكر أن به صدقا مؤثرا، و"لوبين" زعيمة حزب اليمين المتطرف التي وصلت في الانتخابات السابقة إلى 19% منذ خمس سنوات أي قبل الأحداث الإرهابية، فلنا أن نتخيل أن المشكلات ما زالت كما هي من بطالة وأزمة اقتصادية وأعداد المهاجرين المتزايدة، والذين تلاعبت "لوبين" كثيرا بوضع الأزمات كلها على عاتقهم وتوعدت بالتخلص من بعضهم، خاصة بعد أن سالت الدماء بفعل الإرهاب وأيضا بأيد مهاجرة مجنسة مما زاد الطين بلة، فرفع أسهم لوبين خاصة في الجنوب الفرنسى حيث الفرنسيين الأكثر ثراء وتحفظا أيضا..

وفور إعلان نتجية الجولة الأولى أعلن "فييون" و"آمون" و"إولاند" ترشيحهم بلا تفكير لــ"ماكرون" وتحفظ "ميلانشون" وكانت كل المؤشرات تتجه نحو نجاح "ماكرون" ولكن في فترة أسبوعين لم تكن هذه هي الحقيقة على أرض الواقع، فحقا رؤساء الأحزاب أعلنوا موقفهم وحتى حزب اليسار المتطرف ما كان لينتخب "لوبين" في كل الأحوال مما رفع نسبة الانتخاب الأبيض لأول مرة، وهو يعنى رفض المرشحين الاثنين لأن الوعى الفرنسى له رأى آخر، هذا الوعى الذي يرفض المرشح المدعوم من الكبار لأنه لا يرى المواطن العادى أولوية لديه، لكن غالبية الشعب وجدوا نفسهم في مأزق لأن المرشحة ضد ماكرون تابعة لحزب متطرف..

ولكن "لوبين" استطاعت في أيام أن تجذب الانتباه إليها وأن تقنع أعدادا كثيرة بجدارتها واهتمامها بملفات مختلفة ومن بين الجمل المهمة لها: "علينا أن نتحرى الدقة من أي بلد نستورد الخضراوات والفاكهة فليست كل البلاد التي نستورد منها تحترم قوانين الزراعة الجيدة حتى نطمئن على جودة ما نأكله"، في الوقت الذي تراجعت فيه أسهم "ماكرون" خاصة حين زار أحياء المهاجرين ولعب مع أطفالهم كرة قدم فبدا شابا لا يجيد وضع نفسه في إطار الرئيس، وقال: "إن فرنسا لكل من على أرضها"، وهو نهج مضاد لنهج "لوبين" التي تصرخ بأن تكون فرنسا للفرنسيين فقط..

وأخطأ هنا "ماكرون" خطأ كبيرا لأن أصوات المهاجرين كانت ستذهب له في كل الأحوال لأنهم يرفضون "لوبين"، فكان عليه أن يركز على الشريحة الفرنسية العريضة المترددة والتائهة والقلقة من الأزمة الاقتصادية والمذعورة من الإرهاب، والتي تفكر مثل كل شعوب العالم في مستقبلها وجدارته بتأمينه حال نجاحه..

وفى نفس الوقت أعطت "لوبين" ضربة محنكة سياسية حين اتحدت مع "ديبونتينيان نيكولا" اليمينى والذي خسر في الجولة الأولى بــ 5% وكان ضدها سابقا، لكن اللعبة السياسية كانت على أشدها في هذا التوقيت حين اعتلت "لوبين" المنصة، وأعلنته رئيس وزراء حكومتها القادمة بعد الرئاسة.. لم تكن غرابة المشهد في الاتحاد بين الاثنين ولم تكن أيضا فيما قاله "هولاند" إن عليهما أن يعلنا نواياهما الحقيقية من الاتحاد معا، وهى إخراج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، ولم تكن أيضا في إحراج "ماكرون" الذي لم يعلن عن أي أسماء في وزارته حال وصوله للرئاسة، ولكن الغرابة كلها كانت في الطريقة التي أعلنت بها "لوبين" الخبر، وكأنها أصبحت بالفعل رئيسة للدولة، وهو المسمار الذي دقته بيدها في سفينتها، وتهاوت بعده، فلم يكن نقطة في صالحها بل كان أولى خطوات السقوط..

لأنها ذهبت للمناظرة مع "ماكرون" وهى تحمل عقيدة "أنها الرئيس"، بالتأكيد المناظرة هي التي حسمت القرار حيث جاءت "لوبين" ومعها ملفات لم يكن بها ما يمكنها تقديمه من حلول لأزمات فرنسا والمواطنين والخطط المستقبلية بقدر ما كان بها من ترصد لأخطاء "ماكرون"، تلك الأخطاء التي يعلمها الجميع منها أنه قادم أساسا من البنوك وهو أمر مزعج للفرنسيين، وكيف يمكنه أن يترشح كرئيس وكان وزير اقتصاد في حكومة فاشلة، فإن كانت لديه حلول فلم بخل بها على "هولاند".. إذن فهو يكذب حين يقول إن لديه حلولا جديدة، وإنه ذهب إلى الجزائر وأهان فرنسا حين قال إن ما حدث من الفرنسيين تجاه الجزائر إبان فترة الاحتلال هو جريمة ضد الإنسانية، وحين قال إن الأحداث الإرهابية بفرنسا تتحمل فرنسا جزءا من المسئولية بها، وإنه مدعوم من "هانى رمضان" والمنظمات الإسلامية الموجودة بفرنسا، وهو الاتهام الذي بدا مبالغا فيه كثيرا..

منذ اللحظة الأولى وجد "ماكرون" نفسه في موقف المتهم وليس في موقف مرشح أتى ليعرض برنامجه، وبدأ طريقا مريرا في الدفاع عن نفسه، ومن بين دفاعاته أنه كان يقصد حين قال إن فرنسا تتحمل جزءا من المسئولية عن الإرهاب، هو فكرة الاهتمام بتوقع العمل الإرهابى قبل حدوثه، والمتابعة الجيدة للمشبوهين، ورفع أعداد رجال الشرطة وعتادهم وإمكاناتهم، ورفض تماما اتهامه بأي صلة بمنظامات أو مؤسسات إسلامية وإن كانت لديها ما هو ضدهم في دولة قانون كفرنسا فلتتقدم ببلاغ، لتتتخذ معهم فرنسا الإجراءات اللازمة إن كانوا فعلا متطرفين ويمثلون خطرا وقد أحرج "لوبين" بهذا التعليق..

وبدت المناظرة مخيبة كثيرا للآمال في مشهد لم يرتق إلى مناظرة بين من سيكون أحدهما رئيسا لفرنسا، لكن "ماكرون" حافظ كثيرا على هدوئه، وكانت حرب الأرقام في صالحه بشكل واضح حين أكملت لوبين اتهاماتها الاقتصادية بأرقام وتوقعات سبق واتهمها "فييون" بأن ما تقوله غير منطقى أو واقعى فالتقط "ماكرون" الخيط الذي يجيده فراح يصلح لها معلوماتها الاقتصادية، مثل استحالة إمكانية عودة فرنسا للفرنك في الداخل وتعاملها في نفس الوقت مع أوروبا باليورو حال خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وهذا لم يمنع أخطاءه هو أيضا في الخلط بين عدد العاطلين عن العمل ونسبة البطالة في فترة التسعينيات..

لكن "لوبين" بعدم تركيزها فيما تقوله وعدم منطقيته انهارت وسقطت إلى جانب ثقة "ماكرون" في حديثه، حتى وإن كانت به بعض الأخطاء فقد كان الأكثر اتزانا وتحديدا وكان ذكيا إلى الحد الذي رشحه كرئيس، فهو لم يأت باتهامات مسبقة لمنافسته لكن كان لها كل الاتهامات في المناظرة بشكل تلقائى قلب الطاولة وغير مجرى تاريخ فرنسا من حكم "لوبين" إلى حكم "ماكرون"، وأتت على لسانه كلمات مكررة تندر لها الكثيرين، مثل "أنت تقولين تفاهات وأكاذيب وتشويه وتلطخين سمعة الجميع ولا أتمناكى لفرنسا أبدا لأنها تستحق أفضل منك"، خاصة حين تعرضت سريعا للقضاء بحكم عملها كمحامية، فقال لها "ماكرون": لقد شوهتى الجميع أنا والمهاجرين واستقلالية القضاء..

وعلى الرغم من ثقة الناس في أن بعض ما قالته "لوبين" به بعض الصحة، إلا أن الشكوك حامت حول مستوى اتزانها النفسى وهى تحرك ذراعيها وتستفزه، كأنها في عرض مسرحى جعل الأغلبية تتخذ القرار بانتخاب "ماكرون" تجنبا لأن تحكمهم قائدة لسيارة متهورة، ربما تلقى بهم من فوق جبل وتحسب نفسها تجيد صنعا وتصنع معروفا..

والآن سأتحدث كمهاجرة وأضع نفسى في الحجم الذي على أن أضع نفسى فيه في هذه اللحظة، فـــ"لوبين" لم تعلن بأى شكل من الأشكال أنها ستسيء إلى أي من المجنسين أو من يعملون بجدية في فرنسا ويدفعون ضرائبهم ومندمجين بالمجتمع الفرنسى، ولكنها تريد أن تقلص عددهم من 200 ألف إلى 10 آلاف فقط كل عام، وهو أمر غير منطقى لأن بعضهم طلبة أو مرضى وبعضهم لهم عائلات داخل فرنسا..

وحين قالت إنها ستسحب الجنسية الفرنسية في المناظرة كانت تقصد ممن ارتكبوا أعمالا إرهابية وهو القانون الذي تم رفضه في عهد توبيرا وزيرة العدل السابقة لفرنسا، وهو قانون موجود بالأساس في القانون المدنى حال ارتكاب جرائم قتل، وهو ما يعنى أنها لم تأت بجديد، وأنها ستغلق المساجد التي يديرها سلفيون، وأنها ستخرج من فرنسا تماما كل فرنسى من أصول غير فرنسية بعد سفره وعودته من سوريا، ورغم أن ما قالته يبدو في ظاهره غير معرض للمساس بكل مهاجر محترم، ويبدو حقها الطبيعى في حماية بلدها فإنه مع الفكر التطرفى العنصرى لا يمكن أن نتوقع خطوات محسوبة لأنها ترفض الوجود العربى والإسلامى بشكل عام..

أما "ماكرون" الذي كان عنيدا ومصمما على نقاش هذا الملف بشكل مختلف بشجاعة يحسد عليها، وهى أن المهاجر المستقر جزء من فرنسا لا يمكن التعامل معه على أنه غريب وملفوظ، وأن الخطاب العنصرى من شأنه أن يتسبب في أحقاد ويعرض البلاد إلى حروب أهلية، وأنه سيجعل لملف الإرهاب أولولية لديه وسيتخذ كل الإجراءات التي من شأنها أن تحمى كل آمن على أرض فرنسا..

خطاب "ماكرون" المتسامح كان أكثرا تأثيرا من خطاب "لوبين" الحاد وجعل الجنوب الفرنسى الداعم لــ"لوبين" يتراجع فكانت النسبة الأعلى لها في مدينتين في شمال فرنسا، وهو تغيير كبير في مسار الانتخابات، وأثبت أن الفرنسيين شعب عاقل يريد أن يحكمه رئيس يمثل صورته الجميلة أمام العالم، وجعلنى وغيرى من المهاجرين نشعر حين يوجه ماكرون خطابه للفرنسيين أنه يخاطبنا أيضا، ويعمق انتماءنا لوطننا الثانى فرنسا.

وهو أسلوب جمع قلوب الشعب على كلمة واحدة لأن شق الصف هو الأخطر على أي دولة.. كما أننا لا يمكن أن ننكر الجانب الإنسانى لهذا الرجل الذي أحب مدرسته ووعدها بالزواج وأصر عليه رغم أنها تكبره بـــ 25 عاما وزوجته "بريجيت" شخصية متميزة جدا وظهر هذا حين صعدت إلى جواره بعد أن ألقى خطابه الأول وقبلت يده بحب لأنها مؤمنة بقدراته، وصعدت أسرته على المسرح بأطفالهم وكان "ماكرون" يقبلهم بسعادة بالغة في مشاهد مؤثرة لن تمنع الوعى الفرنسى من متابعته ومحاسبته في كل الملفات التي تخص بلادهم وأمنهم وظروفهم الاقتصادية، ولم تمنع أيضًا تخوفاتهم الحالية التي لم يخفوها ولن تمنع معاقبته إن أخطأ... فقصة ماكرون لم تنته بل بدأت.
الجريدة الرسمية