رئيس التحرير
عصام كامل

المجددون.. فخر الدين الرازي، هابه الملوك والسلاطين واحترمه التتار

فخر الدين الرازي،
فخر الدين الرازي، فيتو

عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّدُ لها دينها". 

ولم يشترط السيوطي أن يكون "المجدِّدُ" فردًا، بل يشمل كل من نفع الأمة وجدد لها شيئًا من أمور دينها ودنياها في أي مجال من المجالات، وأيده في ذلك ابن الأثير الجزري وشمس الدين الذهبي، وابن كثير الدمشقي، وابن حجر العسقلاني.

 

ولا يلزم أن تجتمع خصال الخير كلها في شخص واحد، بل قد يكون هناك أكثر من عالِمٍ في أكثر من مكان، في وقتٍ واحدٍ، أو أزمانٍ متفرقة، يتميز كل منهم بمزية في علم من العلوم الدينة والدنيوية، شريطة أن يكونوا جميعا مسلمين، مؤمنين، ملتزمين بهدي الدين الحنيف.

وهذا موجود، ولله الحمد، حتى قيام الساعة، فهناك من يتفوق في اللغة، والفقه، والتفسير، وهناك من يمتاز في العلوم الحديثة، كالطب والهندسة والتكنولوجيا، وغيرها.. وهناك من يدفع عن الإسلام شبهات الملحدين، والمتطرفين والمفرطين، ويصد هجمات المبطلين، والمنحرفين، وأعداء الدين.

 

فخر الدين الرازي (544هـ - 606هـ)

لم يكن فخر الدين الرازي مجرد فقيه، بل كان مثقفا موسوعيا، وناشطا علميا، امتدت مؤلفاته إلى العديد من العلوم والتفاسير.

وبحسب الإمام الحافظ والمحدث الموسوعي المصري، جلال الدين السيوطي، فالرازي هو أحد المجددين على رأس المائة السادسة بصفته أحد أهم فقهاء ذلك القرن.     

نسبه ومولده

هو الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي، الملقب بـ"فخر الدين الرازي".

ولد في الري بطبرستان (طهران حاليا) عام 544هـ، 1150م. وتوفي سنة 606هـ، 1210م. 

وكان الإمام الشوكاني يقول ضمن ترجمته لأحد أحفاد الرازي العلماء في "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع": "وكان الإمام (الرازي) يصرح في مصنفاته بأنه من أولاد عمر بن الخطاب".

أخذ العلم عن كبار علماء عصره، ومنهم والده عمر بن الحسن الذي كان عالما شافعيا أشعريًا يلقب بـ"الإمام ضياء الدين" وهو خطيب المدينة، ولذلك أصبح الرازي يُعرف، في كتب التراجم والتاريخ، بـ"ابن خطيب الرَّيِّ" أو "ابن الخطيب"، حتى برع في علوم شتّى، وانتشرت مؤلفاته في البلاد شرقا وغربا.

ورغم الاتهامات التي نالته بالكتابة عن السحر، والانحراف عن السنة المطهرة، فإنه توفي على طريقة حميدة، رحمه الله.

كان الرازي عالما في التفسير والكلام والفلسفة والأصول والفقه والبلاغة ومشارك في علوم أخرى كالفلك والطب والحساب والهندسة والهيئة، حتى توافد عليه الكثير من الأعلام وطلاب العلم في عصره.

مؤلفاته واكتشافاته

ترك الإمام مؤلفات كثيرة ومتنوعة في مختلف العلوم والمعارف كلها تدل على غزارة علمه واتّقاد فكره وتنوع معارفه.. وتخرّج على يديه كبار العلماء، مثل زين الدين الكشي والقطب المصري. 

ولم يكن الإمام الرازي تلك الشخصية المهتمة بعلوم المنقول والمعقول فحسب، وإنما كانت له مشاركات عجيبة في بقية المجالات العلمية. 

ومن أهم منجزاته، أنه كان من الأوائل الذين قالوا بنظرية الورود في الضوء من المبصرات إلى العين، وفي كيفية الإبصار. 

وقد فسر فخر الدين الرازي حدوث الصوت في كتابه "المباحث الشرقية" بسببين: الأول منهما قريب يحدث من صدم فسكون فصدم فسكون. والثاني منهما بعيد ويحدث من عاملين: القرع، القلع.

ومن اكتشافاته: الفرق بين قوة الصدمة والقوة الثابتة، فالأولى زمنها قصير، والثانية زمنها طويل. 

كما اكتشف أن الأجسام كلما كانت أعظم كانت قوتها أقوى، وزمان فعلها أقصر، وأن الأجسام كلما كانت أعظم كان ميلها إلى أحيازها الطبيعية أقوى وكان قبولها للميل القسري أضعف.

ثم شرح القانون الثالث من قوانين الحركة الذي يقول: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. 

وشارك فخر الدين الرازي العالم العربي المسلم ابن ملكا البغدادي في القول بأن الحلقة المتزنة بتأثير قوتين متساويتين تقع تحت تأثير فعل ومقاومة، أي أن هناك فعلا ورد فعل متساويين في المقدار ومتضادان في الاتجاه يؤديان إلى حالة الاتزان.

"إمام المشككين"

كان يتمتع بعقلٍ نقدي وتحليلي قوي، فكانت لديه قدرة هائلة على إثارة الشك في أعمال الفلاسفة الكبار، ولهذا السبب عُرف بـ"إمام المشككين"، حيث شكك الرازي في معظم المبادئ الفلسفية، وانتقد فلاسفة اليونان أيضًا. 

يُعدّ كتاب "المباحث المشرقية" أشهر مؤلفاته، وهو كتاب في العلوم الإلهية والطبيعية وفيه انتقادات لاذعة للفلاسفة. 

وبشكل عام هاجم الفخر الرازي في مؤلفاته آراء الفلاسفة الإسلاميين واليونانيين بقلم حاد، وفي الوقت نفسه جادل لصالح علم الكلام والفقه الإسلامي ودعم سياسات الخلافة.

وكان الرازي يرى أن الطب والفراسة (أو علم النفس) من العلم الطبيعي، ويؤمن بالصلة الوثيقة بينهما، وأثبت في تفسيره كروية الأرض، وثبات الشمس ودوران الأرض وأكثر آرائه في العلوم الطبيعية نقلها عن كتب ابن سينا، وهي موجودة في كتبه الفلسفية كالمباحث المشرقية والملخص، كما تظهر آثارها ومظاهر الطبيعة والطب في تفسيره الكبير في تحليل ما يتعلق بالأرض والسماء والإنسان، والمعادن والنبات والحيوان والآثار وبيان منافعها. 

باختصار، كان موسوعة معرفية تمشي على قدمين حاملة أسفارا تلاقت فيها روافد أصول ومَلَكات المعرفة الإسلامية والإنسانية: الاعتقاد والفقه والتفسير والفلسفة الناقدة، والمعارف الصوفية والحِكم العالية، ودروس الأدب والشعر ومنابر الخطابة، ومجالس الجدل والمناظرة، ومكائد التعصبات المذهبية والصراعات السياسية.

ومن أهم آرائه أن "العلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوة العلمية، والملوك سلاطين بسبب ما معهم من القدرة والمُكْنَة، إلا أن سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك، لأن سلطنة العلماء لا تقبل النسخ (يعني الإزالة) والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما، ولأن سلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء، وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء، وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة".

كان الرازي يمثل طبعة خاصة من مدرسة الأشعرية التي نجحت في التسرب إلى المذاهب الأربعة مع حضور طاغٍ لها في الشافعية والمالكية، كما أنه لم يكن مفكرا هامشيا عابر التأثير بل كان في صلب هموم أمّته وعلوم حضارته.

وهكذا اقترن انتساب الرازي إلى المذهبيْن الفقهي الشافعي والعقَدي الأشعري بالميلاد والرحِم وأخذ المسانيد عن أبيه؛ فقد كان يبالغ في تقدير والده ويصفه "بالإمام السعيد"، ونجده يذكره في مواضع متعددة من تفسيره راويا عنه فيقول: "سمعت شيخي ووالدي رحمه الله يقول.."، "وسمعت والدي رحمه الله يقول..".

عاش العالم الإسلامي في عصر الرازي متقلبا ما بين انتصارات وهزائم؛ ففي حين كان لا يزال يحتفي بانتصار حطِّين على الصليبيين سنة 583هـ/1187م، كانت معاقلُه، لحظةَ وفاة الرازي، تتهيأ لمواجهة خاسرة غربا مع ملوك الأندلس في معركة العِقاب (جمع عَقَبَة) سنة 609هـ/1212م، وما تلاها من هزائم أندلسية؛ وتتأهب لسلسلة اجتياحاتٍ مغوليةً موازيةً كانت غيومها تتجمع شرقا في الأفق لتطوي تدريجيا بساطَ الهيمنة من تحت أقدام العالم الإسلامي، عبر دكّ سنابك خيل التتار لمعاقل دولة الخلافة العباسية وصولا إلى إخضاع عاصمتها بغداد سنة 656هـ/ 1258م.

انهيار دولة السلاجقة

شهدت الفترة التي عاش فيها الإمام الرازي (543-606هـ/1148-1209م) تهاوي دولة السلاجقة في مركز الخلافة العباسية بالعراق والمناطق الواقعة شرقه، بدءا من ضعفها بوفاة السلطان مسعود، وانتهاءً بانهيارها كليًا بهزيمة السلطان طغرل الثاني على أيدي سلاطين الدولة الخوارزمية الصاعدة.

اشتُهر عنه أنه كان مقرَّبا لعدد من السلاطين والملوك في منطقته وخارجها، وقد أهدى إلى بعضهم مجموعة من كتبه، مثل كتاب "المسائل المشرقية" الذي أهداه إلى الوزير الخوارزمي أبي المعالي سهيل بن عبد العزيز المستوفي، وكذلك كتاب "أساس التقديس" الذي أشار إلى أنه ألَّفه للملك العادل الأيوبي.

علاقاته بالملوك والسلاطين

أما علاقاته الأقوى والأبقى فقد كانت في الدولة الخوارزمية حيث عاش ونشط دراسة وتدريسا؛ وخاصة بسلطانها الكبير خوارزم شاه محمد بن تكش الذي "حظِي عنده ونال أسنى المراتب، ولم يبلغ أحد منزلته عنده".

ولا يقاربه في ذلك إلا صلته بملوك الدولة الغزنوية التي "قصد سلطانها غياث الدين الغوري، فالتقاه وبجله وأنزله، وبنى له مدرسة وقصده الفقهاء من النواحي".

على أن تلك الصِّلات والعلاقات لم تمنع الرازي من أن يؤسس للعلماء شرعية تفوق شرعية هؤلاء الأمراء باعتبار أن "العلماء أمراءُ الأمراء"؛ حسبما يقرره في تفسيره "مفاتيح الغيب".

كما لم تكن هداياهم إليه وإجلالهم لمكانته حائلا دون وعظه لهم وإنكاره عليهم؛ فقد ذكر تاج الدين السبكي أن الرازي "وعظ يوما بحضرة السلطان شهاب الدين الغوري وحصلت له حالُ [وَجْدٍ]، فاستغاث: يا سلطانَ العالَم (الغوري) لا سلطانُك يبقى ولا تلبيسُ الرازي يبقى ‏{‏وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ‏}‏"!! و"كان يتعاظم حتى على الملوك"!! 

ومن القصص الدالة هنا ما أورده الصفدي من أن "بعض الملوك.. سأله الرازي أن يضع له شيئا في الأصول يقرؤه، فقال له: بشرط أنك تحضر إلى درسي وتقرؤه عليّ، فقال: نعم، وأزيدك على هذا! فوضع له كتاب "المحصل"..، فكان السلطان.. يجيء ويقف ويأخذ.. مِداس (الحذاء) الإمام ويحمله في كُمِّهِ، ويسمع الدرس في الكتاب".

علاقات الرازيَّ بالسلاطين مكنته من التحرك بحرية كاملة، ومنحته فرصة مثلى لإقامة دروسه ومناظراته، وأتاحت له بيئة آمنة مطمئنة أنضج فيها نظرياته وأحكم مؤلفاته؛ حتى إن ابن أبي أصيبعة يصف أبّهة مجلس درس له حضره اثنان من الملوك فجلسا كما يجلس بقية الحاضرين، فقال: "وكان لمجلسه جلالة عظيمة.. ويكون له يوم مشهود يراه فيه سائر الناس ويسمعون كلامه..، وعن جانبيْه، يَمْنةً ويُسْرةً، صفّان من مماليكه التُّرْكِ مُتَّكئين على السيوف".

كان الرازي من أصحاب التجارات ورؤوس الأموال والجاه العريض حتى "صار من رؤساء ذلك الزمان، يقوم على رأسه خمسون مملوكا بمناطق الذهب وحُلَل الوَشْي (الثياب المزخرفة)"، طبقا لما أورده الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان". 

أما ابن العماد الحنبلي، فقال في "شذرات الذهب": إن الرازي لما توفي "خلَّف تركة ضخمة منها ثمانون ألف دينار (يساوي اليوم 13 مليون دولار تقريبا)".

ومن أبلغ الأدلة على مكانة الرازي الرفيعة عند السلاطين أن التتار، رغم ما عُرفوا به من وحشية واستباحة للدماء لم يسلم منها حتى كبار العلماء، بالغوا حين دخلوا مدينة هرات في احترام عائلته تقديرا لاسمه ومكانته.

 "عندما استولى التتر على بلاد العجم وخربوا قلاعها ومدنها وكانوا يقتلون في كل مدينة جميع من بها ولم يبقوا على أحد، تقدم الوزير الخوارزمي علاء الملك العلوي إلى جنكيز خان، وقد توجهت فرقة من عساكره إلى مدينة هرات ليخربوها ويقتلوا من بها، فسأله أن يعطيه أمانا لأولاد الشيخ فخر الدين ابن خطيب الري وأن يجيئوا بهم مكرمين إليه؛ فوهب لهم ذلك وأعطاهم أمانا".

و"حكى النجيب الراهب المصري الحاسب بدمشق عن الملك الناصر داود، صاحب الكرك أنه كان يتردد الى شمس الدين الخُسْرَوْشاهي يقرأ عليه كتاب "عيون الحكمة" للشيخ أبي علي بن سينا، وكان إذا وصل إلى رأس المحلة التي بها منزل الخُسْرَوْشاهي أومأ إلى مَن معه مِن الحشم والمماليك ليقفوا مكانهم، ويترجّل ويأخذ كتابه تحت إبطه ملتفا بمنديل ويجيء إلى باب الحكيم ويقرعه، فيفتح له ويدخل ويقرأ ويسأل عما خطر له ثم يقوم، ولم يمكِّن الشيخ من القيام له".

كان الرازي على المستوى الشخصي "أكبرَ العلماء والمفكرين بعد الغزالي.. في المرحلة التي عاشها..، وقد ترك أثرا كبيرا على العلماء الذين جاؤوا بعده...، ومن هنا نلاحظ أن العثمانيين الذين توجهوا إلى مناطق خوارزم وما وراء النهر لتحصيل العلم" تأثروا بآراء الرازي ثم عادوا بها إلى بلادهم فنشروها.

بل إن أحد أحفاد الرازي تولى منصب "شيخ الإسلام" في الدولة العثمانية وهو حفيده علي بن أحمد الجمالي الشهير بلقبه "زنبيللي علي أفندي".

وفاته

عاد الإمام الفخر الرازي إلى هرات نحو عام  م1205، وعاش هناك حتى توفي في ثاني أيام عيد الفطر سنة 606 هجرية، 1209م، وله بضع وستون سنة.

ويُذكر أنه عندما كان على فراش الموت، كتب وصيةً لأحد أصدقائه أو طلابه، تحتوي على معلومات واسعة عن أفكاره وحياته.

ويرى بعض المؤرخين أن فخر الرازي قُتل مسمومًا على يد أتباع طائفة كانت تُعرف بالكرامية، وذلك نظرًا إلى احترامه من قبل السلطة في ذلك الوقت.

ورُوي أنه أعلن ندمه في آخر عمره، حيث قال: لقد تأملتُ الطرقَ الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتُها تُشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن.

ويقع مقام الإمام فخر الرازي في الشمال الغربي من مدينة هرات في أفغانستان.

 

ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا

الجريدة الرسمية