بيجاما الدكتور مأمون فندي
قبل سنوات طوال، أطول من ذاكرتي، قرأت مقالا في صحيفة الأهرام العريقة، إن لم تخني الذاكرة، للأستاذ مأمون فندي، يتحدث فيه عن ظاهرة بدت آنذاك مستفزة له وهي خروج البيجاما إلى الشارع، إذ لم يكن يتصور الدكتور مأمون أن الرجل الذي كان بالأمس البعيد يخجل من الظهور بملابس النوم خارج عتبة بيته، سيقرر وقت نشر المقال أن يتجول بها في الشارع ليشتري الإفطار أو الجريدة أو احتياجات البيت، وكأن الخصوصية نفسها لم تعد قيمة يُحرَص عليها.
لكن لو عاد مأمون فندي اليوم ليكتب مقالا آخر عن الموضوع ذاته، ربما كان سيجد أن البيجاما لم تعد المشكلة، فالبيجاما خرجت إلى الشارع منذ زمن، لكنها لم تكتف بذلك، بل قادتنا جميعا إلى مشهد أكثر رعبا وهي أنه لم يعد الشارع وحده مستباحا، بل أصبحت البيوت نفسها بلا جدران، مكشوفة ومفتوحة على مصراعيها أمام الكاميرات، وأمام جمهور افتراضي يراقبنا ليل نهار، لا لشيء سوى من أجل بعض الإعجابات والدولارات وكبسوا كبسوا.
قد يبدو الأمر للوهلة الأولى مجرد تطور طبيعي في أنماط السلوك، فالعالم يتغير والعادات تتبدل، وما كان مستهجنا بالأمس قد يصبح مقبولا اليوم، لكن الحقيقة أن هناك فارقا بين التطور الطبيعي والتراجع القيمي.. خروج البيجاما إلى الشارع لم يكن مجرد مسألة ذوقية أو موضة بل كان إحدى إشارات التحولات العميقة التي تمس مفهوم الخصوصية ذاته.
في الماضي، كانت فكرة البيت تعني شيئا محددا، مكان له جدران تحمي سكانه من أعين الغرباء، وحياة تدور داخل هذه الجدران بعيدا عن المتطفلين، أما اليوم فقد أصبحت البيوت أشبه بمسرح بلا ستائر، تُبث حياتنا الخاصة على الهواء مباشرة بلا أي تحفظ، كل شيء صار قابلا للعرض: المطبخ.. غرفة النوم.. السهرات العائلية.. تناول الطعام، حتى لحظات الحزن والانكسار يا مؤمن تحوّلت إلى محتوى ترفيهي يُقدَّم للمتابعين.
لم يعد الأمر مقتصرا على مشاهير وسائل التواصل الذين يصنعون محتوى حياتهم اليومية، بل صار نمطا عاما يتبعه كثيرون بلا وعي، خذ عندك مثلا فتاة تستيقظ من النوم لتُحيي متابعيها بفيديو صباحي وهي ما زالت في سريرها، رجل يفتح بثا مباشرا ليشارك جمهوره تفاصيل شجاره مع زوجته، وآخر يصوّر جنازة قريبه ليحصد التعاطف.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا نفعل ذلك؟ لماذا أصبحنا نقبل العيش تحت أعين الآخرين، ونجد في التعري الرقمي متعة تفوق متعة الاحتفاظ بأسرارنا لأنفسنا؟
الإجابة قد تكون معقدة، لكن يمكن تلخيصها في أمور مثل الهوس بالقبول الاجتماعي، الإنسان بطبيعته يسعى إلى أن يكون مقبولا من الآخرين، لكنه اليوم بات يسعى إلى ذلك بطريقة مرضية، من خلال قياس قيمته بعدد المتابعين والتفاعلات.
وكذلك الرغبة في تحقيق الذات عبر الوجود الرقمي، البعض يشعر أن حياته الحقيقية غير كافية، فيسعى إلى خلق حياة بديلة أمام الكاميرا، حتى لو كانت زائفة أو مصطنعة.
وتحوّل الحياة إلى سلعة، لم تعد المشاهد اليومية مجرد لحظات خاصة، بل أصبحت قابلة للبيع والمتاجرة بها، فمن يحصل على مشاهدات أكثر يحقق أرباحا، ولو على حساب خصوصيته وكرامته.
لكن الثمن فادح.. فقد يظن البعض أن هذه مجرد تغييرات غير مؤذية، وأن العالم يتطور بشكل طبيعي. لكن الحقيقة أن الثمن الذي ندفعه مقابل هذا الانفتاح المبالغ فيه فادح للغاية، بداية من انهيار الحدود بين العام والخاص.. لم يعد هناك فرق واضح بين ما يجب أن يُقال ويُعرض، وما ينبغي أن يبقى في إطار الخصوصية.
وكذا تفكك العلاقات الأسرية، حين تصبح أدق تفاصيل الحياة الزوجية والعائلية قابلة للمشاركة، تضعف قيمة الاحترام المتبادل، ويتحول الحوار العائلي إلى محتوى بدلا من أن يكون علاقة إنسانية حقيقية.
فضلا عن ضياع الهوية الشخصية، فمن يعيش حياته أمام الكاميرا، يفقد في النهاية القدرة على التمييز بين ذاته الحقيقية وذاته التي يعرضها للناس.
قد يقول قائل: هل الحل أن نعود إلى الكهوف ونغلق هواتفنا ونعتزل العالم؟ بالطبع لا فالتكنولوجيا في حد ذاتها ليست المشكلة، المشكلة في طريقة استخدامها وليس مطلوبا أن نعيش في عزلة لكن مطلوب أن نستعيد التوازن، أن ندرك أن للخصوصية قيمة وأن بعض الأمور يجب أن تبقى خارج نطاق العرض والتفاعل، لأن الاحتفاظ ببعض الجدران في حياتنا هو ما يمنحنا الأمان والكرامة والهوية.
قبل سنوات بعيدة، كان الدكتور مأمون فندي مستاء من خروج البيجاما إلى الشارع. اليوم لو تذكر ذاك المقال، ربما سيكتب عن البيجاما التي خرجت ولم تعد، عن الجدران التي سقطت، وعن الإنسان الذي تحوّل إلى بث مباشر بلا انقطاع.
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا