رئيس التحرير
عصام كامل

التحيز الإعلامي ضد طوفان الأقصى: قناع التزييف وشرعنة الإبادة

في ساحة المعركة، حيث لا صوت يعلو على صوت الرصاص والقصف، تندلع معركة أخرى أشد قسوة وأقل ضجيجًا؛ إنها معركة السرد والوعي، التي تشنها وسائل الإعلام العالمية على القضية الفلسطينية.

إن طوفان الأقصى، بما يحمله من رمزية وصمود، لم يُقابل في معظم المنابر الإعلامية الدولية إلا بحجبٍ وتزييف، يسعى لطمس ملامح الحق الفلسطيني وتحويل جراحاته إلى فصول من التشويه والافتراء.


بينما يعاني الشعب الفلسطيني من حرب إبادة صهيونية تسحق أطفاله وتهدم بيوته، يقف الإعلام الغربي كالسيف المسلط لتجميل وجه المعتدي وتزيين جرائمه بمصطلحات باردة من الدفاع عن النفس وحق البقاء. 

 

لكن، إلى متى سيظل العالم أعمى عن هذه المعركة؟ تلك المعركة التي فيها يُختزل الموت الفلسطيني إلى أرقام، وتُحوّر صرخات المقهورين إلى مجرد أخبار عاجلة لا تلبث أن تختفي، فيما يلتهم التحيز والروايات الملتوية الحقيقة، ويصير الاحتلال قاتلًا بيد، وضحية بيد أخرى تسوّغ له كل جريمة باسم الأمن.

 

هذه هي الإبادة التي يحاول الإعلام تلطيف ملامحها؛ جريمة يتواطأ فيها الصمت مع التضليل، وتصبح فيها الكاميرا شريكًا في القتل، والمقالة سلاحًا يدمّر الحق. إنها معركة العصر، حيث يمسك الإعلام بخيوط الرأي العام، ويشكل وعيًا عالميًّا ينافي الواقع، جاعلًا من الضحية جلادًا ومن الجلاد بطلًا. فهل آن الأوان لكشف الأقنعة عن هذا التزييف؟


منذ عقود، والقضية الفلسطينية تعيش مأساة لم يشهد العالم مثلها؛ شعبٌ يواجه وحشية صهيونية بلا هوادة، وإبادة جماعية تسعى لاقتلاع جذوره، في ظل منظومة إعلامية دولية تتكئ على تحيّز مفضوح، تنقل للعالم نصف الحقيقة أو أقلّ، لتغدو الصحافة بوقًا يخدم الجلاد، بينما تُسحق الضحية تحت سطوة الأكاذيب والشعارات الملفقة.

 

تغطية تتجاهل تاريخ الصراع وتخفي جرائم الاحتلال

الإعلام الغربي لا يقدّم الحقائق بشكل محايد أو موضوعي، بل ينقل الأحداث من لحظة مناسبة لروايته الخاصة، محاولًا رسم صورة تُظهر الفلسطيني دائمًا كـ"معتدٍ"، بينما يستمر الاحتلال في تجريف الأرض وسلب الحق. 

 

التغطية الإعلامية تبدأ حيث يرغب السرد الغربي، من قصف هنا أو عملية مقاومة هناك، متجاهلةً الواقع التاريخي الذي شهد اقتلاع شعبٍ بأسره من أرضه، وتشريده قسرًا. هذا الإغفال المتعمد ليس صدفة، بل هو استراتيجية تهدف إلى تغييب السياق ودفن الجرائم تحت طبقات كثيفة من التلاعب السردي.

 

التضليل الإعلامي: أداة صهيونية للتلاعب بالحقائق

منذ انطلاق المشروع الصهيوني في فلسطين، لعب الإعلام دورًا رئيسيًّا في تشكيل الرأي العام العالمي، مستغلًا قوة الكلمة والصورة لبناء سردية تبرر احتلال الأرض وتدمر حقيقة النضال الفلسطيني. 

 

تحول الإعلام، بتوجيه من الآلة الدعائية الصهيونية، إلى ساحة تتلاعب فيها المصطلحات، حيث يتم تصوير المقاومة كإرهاب، والشعب الفلسطيني كمعتدٍ، فيما يُمنح الاحتلال صفة الضحية الساعية إلى الدفاع عن النفس.

 
هذا الانحياز لم يكن مجرد انحراف عرضي، بل هو منهج راسخ يجري على وقع سياسات مدروسة تهدف إلى تشويه النضال الفلسطيني، وإضفاء الشرعية على جرائم الاحتلال. فالأنماط المتكررة لهذا التحيز الإعلامي، التي سنتناولها لاحقًا، ليست إلا أدوات دعائية تعمل على تشويه الحقائق، وتحويل الصراع من قضية حقوق مغتصبة إلى مجرد مشاهد عنف مبهمة في عيون العالم.


1- الانتقائية الصارخة والتعتيم التاريخي

ليس من المبالغة القول: إن الإعلام الغربي يتعمد بناء القصة من الوسط، تاركًا خلفه جذور الصراع التاريخي، فيُغيَّب صوت الحقيقة وتُشوّه صورة الفلسطينيين. بلغة إعلامية مفرطة في انحيازها، يصوّر المقاومة الفلسطينية على أنها فعل عدائي منفصل عن الاحتلال، دون إشارة إلى السياق المعقد الذي يتألف من عذابات طويلة ومعاناة متواصلة..

2- إقصاء كامل للرواية الفلسطينية

يمتنع الإعلام الغربي عن إعطاء الفلسطينيين حقهم في إيصال صوتهم، وإن تجرأ على استضافة بعض المتحدثين الفلسطينيين، فإنه يحاصرهم بأسئلة مصممة لانتزاع إدانة معينة، بدلًا من سماع صوتهم الكامل. 

 

يقف الناطق الفلسطيني أمام شاشات الإعلام الغربي كمتهم لا كصاحب حق، بينما تُفسح المساحة لمن يمثل الاحتلال، ليعيد صياغة الواقع وتبرير الجرائم، في ظل خطاب يعيد تشكيل الضحية ليصبح الجلاد ويدفع بالجاني نحو منصة المظلومية.

 

3- التجريد من الإنسانية وتبرير الوحشية الصهيونية

إن ما يفعله الإعلام الغربي هو عملية مدروسة لتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وجعل دمائهم مستباحة في نظر العالم. يتم عرض الفلسطيني كشخص يهدد الأمن، يبرر الخطاب الإعلامي الصهيوني صبّ أطنان المتفجرات على غزة، متناسيًا الإنسانية، ومؤطرًا أفعال الاحتلال في قالب الدفاع عن النفس. إن الصمت على مثل هذه الانتهاكات يحوّل الصحافة إلى شريك في الجرائم، متواطئ في قتل وتشريد الأبرياء.

 

4- قلب المعايير القانونية والإنسانية لصالح الجلاد

تجتهد وسائل الإعلام في تبني سردية الاحتلال الصهيوني، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، في تجنٍّ واضح على مبادئ القانون الدولي. تغلق عيونها عمّا ترتكبه إسرائيل من جرائم ضد المدنيين، متجاهلةً الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان. 

 

بل تذهب إلى أبعد من ذلك بتقديم ما يفعله الصهاينة كممارسة طبيعية للدفاع عن "أمنهم"، ليتحوّل الإعلام إلى درعٍ يصدّ أي محاولة لمحاسبة هذا الكيان على جرائمه.

 

نحو خطاب إعلامي عادل

نحن بحاجة إلى استراتيجيات لمواجهة هذا الانحياز المكشوف، والوقوف ضد طوفان الأكاذيب الذي يحاول إغراق صوت الحق.. والتواصل المستمر والمباشر مع المؤسسات الإعلامية يجب أن يستمر الجهد في تقديم معلومات دقيقة توثق الجرائم، بما في ذلك التقارير الصادرة عن المؤسسات الحقوقية والإنسانية، وأن نوصل هذه الحقائق بوضوح لكل منصة إعلامية تتيح مساحة لنقل صورة عادلة.


التوثيق والمراقبة ومحاسبة التحيّز حيث نحتاج لمؤسسات إعلامية فلسطينية وداعمة، متخصصة في مراقبة وتوثيق التغطية المتحيزة وتحليلها. على هذه المؤسسات أن تكشف أساليب التلاعب التي تمارسها وسائل الإعلام الغربية، وأن تعرض الحقيقة بوضوحٍ للعلن.

 

التوعية القانونية بأبعاد التغطية المنحازة وذلك عن طريق إقامة ندوات متخصصة، لرفع الوعي حول التغطية المنحازة وتقديم شكوى قانونية ضد المؤسسات المتواطئة، سعيًا لتفكيك هذا النظام الإعلامي الجائر الذي يشرعن العدوان على شعبٍ يطالب بأبسط حقوقه.

 

صوت العدالة فوق ضجيج الانحياز

في صراع يسحق فيه الإعلام صوت الحق، يتحول الفلسطيني المقاوم إلى غريب عن الإنسانية، ويرتفع صوت الجلاد فوق صرخات الأبرياء. لكننا، ونحن نواجه هذا الانحياز المدجج، علينا أن نؤمن أن صوت العدالة، وإن خفت في لحظات، سيظل أقوى من كل أسلحة التزييف. 

 

إنها معركة متواصلة لا لكسب التعاطف وحده، بل لكسب احترام العالم للحق، ولإظهار الوجه الحقيقي للاحتلال، علّ الإنسانية تدرك يوما أن هناك شعبًا بأكمله يناضل للبقاء.


في عالم تحكمه الصورة والكلمة، حيث يصوغ الإعلام وعي الجماهير ويقودها بين الحقائق والأكاذيب، تبقى المعركة من أجل الحقيقة هي الأشد صعوبة والأكثر استحقاقًا. لقد تحولت القضية الفلسطينية إلى اختبار ضمير عالمي، وصار السكوت على تزييف الإعلام لآلام شعبها جريمة بحد ذاتها. ففي كل صورة مزيفة، وكل رواية منحازة، يُقتل صوت من أصوات الحق، وتُسد أبواب العدالة.


لكن مهما تعالت أصوات التضليل، يبقى صوت الحق قادرًا على اختراق حجب الزيف؛ فطوفان الأقصى وأصوات أبطاله لن تخبو، حتى وإن غابت عن شاشات العالم، فإنها ستبقى حية في ضمير الإنسانية الحر. 

 

هذه ليست معركة الفلسطيني وحده، بل هي معركة كل من يؤمن بأن للحق قدسية، وأن للحرية ثمنًا. اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، علينا أن نقف في وجه هذه الماكينة الإعلامية المنحازة، حاملين شعلة الوعي والكلمة الصادقة، لنكسر بها قيود التزييف، ونعلّي منارة الحقيقة، لعلّ يومًا يشهد العالم الحقيقة كما هي، ويرفع القناع عن الظلم المستمر.

الجريدة الرسمية