الذكرى الـ26 للمؤامرة الدولية على أوجلان:
تحديات القضية الكردية وآفاق الحلول
في التاسع من أكتوبر عام 1998، شُنت واحدة من أخطر المؤامرات في تاريخ النضال الإنساني، مؤامرة قادتها قوى الظلم والاستبداد ضد رجل حمل على كتفيه هموم أمة بأكملها. عبد الله أوجلان، المفكر والمناضل الكردي الذي لم تضعفه سجون العالم، لم يكن مجرد قائد سياسي، بل كان شعلة فكرية سعت لإضاءة دروب الحرية لشعبه، وإلى مد جسور السلام والعدل بين شعوب المنطقة.
اجتمع في تلك المؤامرة ما كان مستحيلًا من تحالفات بين أعداء الأمس، بتنسيق استخباراتي عالمي تقوده أمريكا، وتباركه الصهيونية، وتدعمه بريطانيا، لتُسلم تركيا إلى يدها رجلًا أدركت بخطورة فكره وسعة رؤيته ما قد يُحدثه من تغييرات جذرية في معادلات السياسة والهوية في الشرق الأوسط.
كانت تلك اللحظة بداية لفصل جديد من الظلم، لكنها أيضًا، وبكل ما حملته من قسوة، لم تنل من صمود أوجلان، بل عززت في روحه إصرارًا على تقديم مشروعه الفكري الذي رأى فيه حلًا لمعضلة المنطقة العصيّة: مشروع الأمة الديمقراطية.
وبعد ستة وعشرين عامًا من ذلك الحدث المشؤوم، يقف الشرق الأوسط على مفترق طرق، تُثقل كاهله الصراعات العرقية والدينية والمذهبية. وما زالت حرية أوجلان وحريته الفكرية تمثل أملًا في تحقيق استقرار طويل الأمد، يحرر شعوب المنطقة من أغلال التمييز والاضطهاد، ويفتح الباب أمام عصر جديد من التنمية والازدهار.
إن اعتقال أوجلان وتسليمه إلى تركيا لم يكن مجرد حدث أمني عابر، بل جاء تتويجًا لسلسلة من الترتيبات السياسية والدبلوماسية التي تهدف إلى إخماد حركة التحرر الكردية. ما يثير الاهتمام هنا هو التوافق الضمني بين القوى الكبرى التي كانت تنافس في بقية الملفات الإقليمية، لكنها التقت في ملف القضاء على أوجلان وحركته، وهو ما يعكس الثقل الاستراتيجي للقضية الكردية وتأثيرها على استقرار المنطقة برمتها.
القضية الكردية وأبعادها على الشرق الأوسط
تشكل القضية الكردية جزءًا لا يتجزأ من النسيج الجيوسياسي للشرق الأوسط. يمتد الشعب الكردي على مساحة جغرافية تتقاطع مع حدود أربع دول رئيسية: تركيا، إيران، العراق، وسوريا. هذا التداخل الجغرافي يجعل من القضية الكردية قضية إقليمية بامتياز، ترتبط بشكل مباشر بالأمن القومي لهذه الدول.
بالنسبة للدول العربية، تبقى القضية الكردية واحدة من أكثر الملفات حساسية، خصوصًا في ظل التداعيات التي تنجم عن تصاعد المطالب الكردية بالاستقلال أو الحكم الذاتي.
إن تجاهل حل القضية الكردية لا يعزز فقط عدم الاستقرار في الدول المعنية، بل يُضعف الجبهة الداخلية للمنطقة بأسرها أمام التحديات المختلفة، سواء كانت اقتصادية، سياسية أو أمنية. لذلك، فإن إيجاد حل عادل ودائم للقضية الكردية يعد خطوة أساسية لتحقيق الاستقرار الإقليمي.
رؤية أوجلان للوحدة الإقليمية
منذ اعتقاله، طرح المفكر عبد الله أوجلان رؤية جديدة لمفهوم الدولة القومية من خلال مشروع الأمة الديمقراطية. هذا المشروع يعتمد على فكرة الوحدة في التنوع، ويعزز من مفهوم الشراكة بين الشعوب دون الحاجة إلى تفتيت الدول أو المساس بحدودها السياسية.
في سياق الشرق الأوسط، الذي يشهد صراعات قومية ودينية عديدة، يبدو أن رؤية أوجلان تقدم مخرجًا ممكنًا للصراعات العرقية والقومية، فهي لا تدعو إلى تقسيم الدول، بل إلى دمج الهويات المختلفة في إطار ديمقراطي يسمح لكل مكون بممارسة حقوقه الثقافية والسياسية.
حرية أوجلان والحل السلمي للقضية الكردية
إن حرية عبد الله أوجلان ليست مجرد مطلب سياسي أو إنساني، بل هي مفتاح رئيسي للحل السلمي للقضية الكردية. أوجلان، رغم سنوات سجنه الطويلة، لا يزال يحظى بتأثير كبير على الشعب الكردي وحركات التحرر الأخرى في المنطقة.
إطلاق سراحه سيمثل نقطة تحول في مسار النضال السلمي، وقد يفتح الباب أمام مفاوضات جادة لتحقيق تسوية عادلة للقضية الكردية.
مفتاح الحل للقضية الكردية واستقرار المنطقة
لا يمكن تجاهل الدور الحاسم الذي يمكن أن تلعبه حرية عبد الله أوجلان في تحقيق السلام الدائم وحل القضية الكردية. منذ اختطافه واعتقاله قبل 26 عامًا، أصبحت قضيته رمزًا للصراع المستمر بين الحكومات التركية المتعاقبة والشعب الكردي.
لكن على الرغم من كل هذه السنوات خلف القضبان، ظل أوجلان حاملًا لمشروعه الفكري والسياسي الذي يعتمد على الحوار والسلام، وهو ما جعله شخصية محورية في أي محاولة لحل القضية الكردية. إن إطلاق سراح أوجلان لن يكون مجرد خطوة رمزية، بل سيكون تحولًا كبيرًا نحو حل سلمي وعادل للمسألة الكردية.
فمنذ أن بدأ أوجلان الترويج لفكرة الأمة الديمقراطية، قدم بذلك رؤية جديدة لمستقبل الشرق الأوسط، لا تعتمد على تقسيم الدول أو خلق حدود جديدة، بل على الاعتراف بالحقوق المتساوية لكافة الشعوب والمجموعات العرقية والإثنية.
إن هذه الفكرة تقوم على احترام التنوع وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال الديمقراطية التشاركية. إذا تم تطبيق هذا النموذج، فإنه سيخلق مناخًا من التسامح والتعايش السلمي بين جميع المكونات، وهو ما سيعالج جذور النزاعات العرقية والدينية والمذهبية التي شهدتها المنطقة لعقود طويلة.
رؤية لحل جذري لمشكلات الأقليات
إن تطبيق فكر الأمة الديمقراطية الذي قدمه أوجلان يمثل حلًا جذريًا لمشكلات الأقليات الإثنية والعرقية والدينية والمذهبية في المنطقة. فالفكر يقوم على أساس دمج المكونات المختلفة في نظام سياسي واجتماعي يتجاوز فكرة الدولة القومية التقليدية التي تعتمد على هوية واحدة وقومية واحدة.
بدلًا من ذلك، يدعو هذا الفكر إلى بناء مجتمع يقوم على الديمقراطية التشاركية، حيث تشارك كل فئة في صنع القرار بشكل مباشر.
تلك الرؤية تتناسب مع طبيعة الشرق الأوسط المتنوعة، حيث تتعايش فيه مكونات مختلفة من العرب، والأكراد، والأتراك، والإيرانيين، والسريان، والأرمن، وغيرهم من الشعوب، فضلًا عن التنوع الديني والمذهبي الذي يميز المنطقة.
فالأمة الديمقراطية تدعو إلى إلغاء التمييز بين هذه المكونات على أساس العرق أو الدين، وتؤسس لمبدأ العيش المشترك في ظل نظام ديمقراطي يحفظ حقوق الجميع. وبهذا المعنى، فإنها تقدم حلًا شاملًا للنزاعات القائمة وتعالج مشاكل التهميش والاضطهاد التي تعاني منها الأقليات في الشرق الأوسط.
آثار تطبيق الأمة الديمقراطية
إذا تم تبني فكر الأمة الديمقراطية وتطبيقه في المنطقة، فإن هذا سيقود إلى استقرار شامل بعد عقود من التوترات والصراعات. إنهاء الصراعات العرقية والدينية والمذهبية سيفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ستتمكن دول المنطقة من توجيه مواردها وإمكاناتها إلى مشاريع التنمية بدلًا من إنفاقها على الصراعات والحروب التي أنهكت الشعوب وأعاقت التقدم.
في ظل الاستقرار السياسي والاجتماعي، ستشهد المنطقة تحولًا إيجابيًا على الصعيد الاقتصادي، حيث يمكن للحكومات أن تبدأ في تنفيذ خطط تنموية تعود بالفائدة على كافة شرائح المجتمع. سيتاح للشعوب فرصة الاستفادة من ثروات بلدانهم وتنمية مواردهم، مما سيسهم في تحسين مستوى الحياة وتقليص الفجوات الاقتصادية بين مختلف المكونات الاجتماعية.
وهذا سيؤدي في النهاية إلى خلق بيئة سلمية ومستقرة، تسمح للمنطقة بالتركيز على بناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة.
خلاصة القول
في ظل التعقيدات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، تبقى القضية الكردية واحدة من أكثر الملفات إلحاحًا، لا سيما وأنها تمس مستقبل العديد من الدول والمجتمعات في المنطقة. إن حرية عبد الله أوجلان وتطبيق رؤيته للأمة الديمقراطية ليسا مجرد خطوة نحو حل القضية الكردية فحسب، بل هما مفتاح لحل أوسع للنزاعات العرقية والإثنية التي تعصف بالمنطقة منذ عقود.
تحقيق هذا الحل سيقود إلى استقرار دائم ويعيد للمنطقة قدرتها على النهوض والتركيز على التنمية والازدهار، ما سيعود بالخير على شعوب المنطقة بأسرها
في رحاب الحرية والمستقبل: أفق جديد للمنطقة
إن المؤامرة التي استهدفت عبد الله أوجلان، رغم وحشيتها، لم تستطع أن تطفئ جذوة فكره، بل جعلت منه رمزًا عالميًا للنضال والكرامة. والأن، بعد أكثر من ربع قرن على تلك المؤامرة، باتت حريته ليست مجرد مطلب كردي، بل نداءً للعدل والسلام في منطقة مزقتها الصراعات العرقية والدينية.
إن فكر الأمة الديمقراطية الذي صاغه أوجلان في ظلام سجنه يحمل في طياته ضوءًا يتجاوز حدود القوميات والطوائف، ليضع أُسسًا جديدة للتعايش المشترك، حيث تُحترم حقوق الجميع دون المساس بوحدة البلدان.
إن مستقبل الشرق الأوسط لن يتحقق بالسلاح ولا بالتفرقة، بل من خلال الحوار والشراكة بين الشعوب. وحدها رؤية أوجلان تقدم طريقًا نحو هذا المستقبل، حيث يمكن للأكراد، والعرب، والأتراك، والإيرانيين، وبقية شعوب المنطقة أن يجدوا في التنوع مصدرًا للقوة والوحدة، لا للانقسام والعداء.
إن حرية أوجلان ستكون الخطوة الأولى نحو حل القضية الكردية، لكنها أيضًا ستكون نقطة انطلاق لتغيير أوسع في المنطقة. فالحرية التي يدعو إليها أوجلان ليست حرية لشعب واحد فقط، بل هي حرية لكل الشعوب المضطهدة، ونداء للسلام والعدالة في مواجهة قوى الهيمنة والاستبداد.
وعندها فقط، ستشهد المنطقة استقرارًا حقيقيًا يسمح لها بالتركيز على التنمية والازدهار، ليعود الخير على الجميع، وتستعيد شعوبها حقها في الحياة الكريمة والحرية.
فإن كانت المؤامرة على المناضل والمفكر عبد الله أوجلان قد بدأت قبل ستة وعشرين عامًا، فإن الرد عليها يبدأ الآن بتحريره، وبتحرير شعوب المنطقة من قيود الظلم والقمع. وكما انطلقت قوافل الحرية عبر التاريخ، فإن أوجلان سيظل، رغم القيود، رمزًا لروح لا تنكسر، وفكر لا يموت.