في المسألة التيجانية
قد يبدو من التناقض أن يكرس الشخص حياته للنجاح المادي ويحقق الثراء والشهرة، ثم فجأة يبدأ في البحث عن أمر روحاني يتجاوز الماديات التي سعى إليها لسنوات.
لكن هذه الظاهرة ليست جديدة، فالعديد من رجال الأعمال، والمشاهير، والفنانين، والمثقفين حول العالم وليس مصر فقط، بعد أن يصلوا إلى قمة الثراء والنجاح المادي، يبدأون في رحلة داخلية للبحث عن معنى أعمق في الحياة.
هذا التحول ينبع من إحساس دفين بأن المال والشهرة، رغم ما تقدمه من وسائل الراحة والسيطرة، لا يمكن أن تقدم إجابات للأسئلة الكبرى التي تلاحق الإنسان في رحلته الوجودية.
الثراء يمنح الحرية والقدرة على تلبية كافة الاحتياجات الجسدية والرغبات الدنيوية، لكنه يخلق فراغًا روحيًا يكاد يكون من المستحيل ملؤه بالماديات. عندما يصبح الوصول إلى المال والسلطة أمرًا سهلًا ومتوقعًا، يبدأ الإنسان في البحث عن شيء يملأ هذا الفراغ.
هنا يظهر الجوع الروحي، ذلك الشعور الذي يدفع البعض للبحث عن صفاء داخلي، عن تجربة تجعلهم يشعرون بالارتباط بشيء أكبر من أنفسهم وأموالهم.
أحد أبرز مظاهر هذا البحث الروحي هو الالتفاف حول مرشدين روحيين.. قد يظهر هؤلاء المرشدون كأشخاص يحملون حكمة أو نظرة خاصة إلى الحياة، ويقدمون وصفات للسلام الداخلي والاتصال بالجانب الروحاني.. وغالبًا ما ينجذب المشاهير ورجال الأعمال إلى هؤلاء المرشدين لأنهم يقدمون لهم إحساسًا بالانتماء إلى شيء يتجاوز المظاهر الدنيوية.
المفارقة هنا أن بعض هؤلاء المرشدين الروحيين، بدلًا من تقديم تعاليم روحية خالصة، قد يصبحون أدوات لاستغلال حالة الجوع الروحي لدى الأثرياء والشخصيات العامة.. ومع ذلك، يجد هؤلاء المريدون أنفسهم مقتنعين بأنهم أصبحوا أقرب إلى الحقيقة وإلى الله وإلى الجمال، رغم أن الطريق الذي يسلكونه قد يكون مجرد وسيلة للهروب من الملل الروتيني للحياة المادية الفاخرة.
لا نحتاج إلى البحث بعيدًا لنجد أمثلة واقعية على هذه الظاهرة. العديد من الشخصيات العامة مثل النجوم الهوليووديين والمشاهير في عالم الفن والموسيقى بدأوا، بعد نجاحهم المادي الهائل، في البحث عن طرق للتواصل مع الروحانية.. يمكننا أن نتحدث عن مشاهير مثل ستيف جوبز الذي لجأ إلى الفلسفات الشرقية والتأمل قبل وفاته، أو أوبرا وينفري التي استثمرت كثيرًا من وقتها في قراءة الكتب الروحانية والبحث عن معنى الحياة رغم نجاحها الإعلامي والمادي الباهر.
بل أن بعض رجال الأعمال في الشرق الأوسط كذلك دخلوا في مغامرات روحية، سواء عبر الحج أو عبر التواصل مع شخصيات دينية أو روحانية تقدم لهم شعورًا بالسلام الداخلي بعيدًا عن التعقيدات الاقتصادية والمادية التي يعيشونها يوميًا.
هنا يبرز السؤال: لماذا بعد كل هذا النجاح المادي، يبدأ هؤلاء الأشخاص في البحث عن الروحانية؟ الجواب قد يكمن في التركيبة النفسية للإنسان.. المال يوفر الراحة لكنه لا يقدم معنى.. في العمق، يبحث الإنسان عن الانتماء، عن شيء يجعله يشعر بالاتصال بشيء أكبر من ذاته.. ولأن الشهرة والثراء تعززان الشعور بالفردانية والانعزال، يبدأ الإنسان في هذا الوضع في البحث عن أشياء تتعلق بالروح، عن نوع من التوازن بين العالم المادي والعالم الداخلي.
البحث عن الجمال والحقيقة هو في النهاية بحث عن الذات.. وما يفعله هؤلاء المشاهير ورجال الأعمال ليس سوى محاولة للعودة إلى النقاء الذي افتقدوه وسط الضجيج المادي. فلسفيًا، يمكننا أن نقول إن الإنسان، بعد أن يحقق احتياجاته الأساسية ويصل إلى قمة النجاح، يبدأ في التفكير في أسئلة تتعلق بمصيره وهويته.. هؤلاء الأشخاص لم يعودوا يرون القيمة في الأشياء التي كانوا يسعون إليها في بداية حياتهم، ولذلك ينطلقون في رحلة نحو الحقيقة.
إن رحلة البحث عن الروحانية هي تعبير عن رغبة الإنسان في العودة إلى المطلق، ذلك المطلق الذي يكون بعيدًا عن المظاهر المادية التي تغرق فيها الحياة اليومية. الروحانية هنا لا تتعلق بالدين فقط، بل هي تجربة ذاتية، محاولة للوصول إلى نوع من السلام الداخلي، محاولة لملء ذلك الفراغ الذي يخلفه النجاح المادي والشهرة.
في نهاية المطاف، رحلة البحث عن الروحانية بعد تحقيق الثراء هي جزء من التوازن الذي يسعى إليه الإنسان في حياته. إنها محاولة للهروب من القيود التي تفرضها الماديات والبحث عن معنى أعمق.
هذا البحث قد يقود البعض إلى مرشدين روحيين، بينما قد يجد البعض الآخر السلام في التأمل الذاتي أو في الفلسفات العميقة. ومع ذلك، يظل السؤال مطروحًا: هل يمكن للإنسان أن يجد السعادة الحقيقية في الروحانية بعد أن قضى حياته في السعي وراء النجاح المادي؟