نكبتنا في نخبتنا!
هل للمثقف عذرٌ إذا أمسك العصا من المنتصف.. وهل يقبل من مثقف تنويري أن يسلك مسلكًا من شأنه تمييع الموقف أو تفريغ القضايا من جديته ومصداقيته ونبله، ومن ثم فهو لا يمثل الحل الأمثل، خصوصًا إذا تعلق الأمر بقضايا مهمة أو مصيرية لا تقبل القسمة على اثنين، أو لا تحتمل مسك العصا من المنتصف..
بل إن مثل هذا الموقف له مخاطر محققة، تحيط بصاحبه وربما تفقده ثقة الجميع، لأن موقفه (الوسطي) هذا، ببساطة لن يكون مُرْضيا ولا مقبولا لأي من الأطراف التي يحاول إرضاءها.. وهذا هو الخسران الأكبر.
الأولى بالمثقف أن يكون صاحب موقف واضح ومحدد حتى لا يخون مبادئه وحاد عن الحق، وصار عديم الفائدة لمجتمعه الذي يعده من قادته ورموزه.
وفي حياتنا كثيرًا ما رأينا أناسًا كنا نظنهم أصحاب مبادئ لكنه آثروا السلامة وأمسكوا العصا من المنتصف؛ حدث ذلك خلال الأحداث الكبرى كما في ثورات الخريف العربي في مصر وتونس، فقد توقف هؤلاء عن إبداء رأيهم في بداية الأحداث، وتمهلوا حتى يروا الورقة الرابحة ليصبوا فيها، أو حتى يروا اتجاه الريح ويركبوا الموجة..
فهم يعرفون من أين تؤكل الكتف، ويعرفون كيف يستفيدون من كل موقف فتراهم يهادنون ويداهنون وينافقون طلبًا لمصالحهم، فهم يؤمنون أن لكل شيء ثمنًا ولا شيء بالمجان..
وهؤلاء يمكن أن ينقلبوا من النقيض إلى النقيض وليس لهم ولاء مطلق لا لفكرة ولا لشخص ولا لرمز بل إنهم براجماتيون يؤمنون بمبدأ ميكيافيلي الغاية تبرر الوسيلة.. يجيدون التبرير واختراع شماعة يعلقون عليها كل فشل؛ سواء كان فشلهم أو فشل من يدافعون عنه ويتبنون نظريته وموقفه.
هذا هو أخطر أنواع المثقفين؛ فهؤلاء دائمًا ما يراهنون على وجود البديل؛ فهل يستحق هؤلاء لقب مثقف وطنى.
في الزمن المقلوب يكثر هؤلاء الانتهازيون مدعو الثقافة؛ فتغدو القيعان قممًا شاهقة في ليلة وضحاها، أو أن تصبح القمم سهولًا جرداء في رمشة عين أو أدنى، ويحدث أيضًا من باب الزراعة الصناعية المسممة المهرمنة أن تنتج الشجرة الخبيثة ثمارًا أكثر خبثًا من أولئك الذين يتخذون الثعلب رمزهم العالي والزئبق شعارهم المثالي والعصا الممسوكة من الوسط صولجانهم الغالي..
من الثعلب ربما نحصل على فراء جميل، ومن الزئبق نصنع ميزان حرارة حساسًا ينبهنا إلى كم درجة وصلت حرارة غيظنا، ونحن نقلّب بالمتثاقف صاحب العصا من الوسط الذي سيبقى أبد الدهر منبطحًا على ظهره.. فتبًا لكل عصا ممسوكة من الوسط.
تعلمت منذ نعومة أظفاري بحكم تربيتى ونشأتي في بيت ريفي ألا أمسك العصا من الوسط.. ورغم أنني تقلدت في الحياة مناصب عديدة؛ فقد كنت عضوًا منتخبًا بمجلس نقابة الصحفيين، ومجلس إدارة دار التحرير للطبع والنشر (الجمهورية) لسنوات طويلة.. فلم أمسك العصا من الوسط أبدًا في أي موقف أو قرار كان يتطلب مني أن أقول رأيي بوضوح وصراحة تامة..
فقد تعلمت أن يمسك العصا من المنتصف هو شخص مراوغ انتهازي يعرف من أين تؤكل الكتف الحرام، ومن أجلها يفعل أي شيء وكل شيء بصرف النظر إن كان حقًا أو باطلًا، وسواء تسبب موقفه المائع في ضياع حقوق ناس أو إزهاق كرامتهم وسحق آدميتهم أو تشويههم واغتيالهم معنويًا..
وقد حرصت قدر استطاعتي أن أقول شهادة الحق مهما تكن كلمة الحق مُرَّة، وما أشد مرارة الحق عند من لا يحبون الحق ولا يرضون به سبيلًا..
البعض يتصور خطأً أنهم قد ينالون ما يتمنون إذا أمسكوا العصا من المنتصف، ويمكنه أن يفعل ذلك مقابل الحصول على كسب مادي أو ترقية أو شيء من منافع الدنيا!
الدول كما الأفراد يمكنها أن تمسك العصا من الوسط، نفاقًا ورياء.. كما فعل نواب الكونجرس الأمريكي مع نتنياهو المتهم بجرائم حرب، حين انطلقوا في التصفيق الحار لقاتل الأطفال والنساء والأبرياء في غزة.. أليس ذلك قمة النفاق العنصري؟!
مسك العصا من المنتصف يقتل بفعلته روح العدل والإنسانية، ويدخل في باب النفاق وهؤلاء توعدهم الله بأشد العذاب.. قال تعالى "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ".. النفاق فساد.. والرشوة فساد.. وسوء الإختيار ووضع الشخص غير المناسب في وظيفة ما فساد.. وتأخير اتخاذ القرارات الواجبة فساد عظيم.. لكن ماذا نقول عن نخبتنا سوى أن نكبتنا في نخبتنا التي تكتم الشهادة بلا ضمير ولا عقل.. فهل يمكن الإطمئنان لمن يمسك العصا من الوسط؟!