رئيس التحرير
عصام كامل

القوي

شهادة واستشهاد

في جوف صحراء وادي النطرون، حيث كان يتربع هدوء الأبدية، عاش القديس الأنبا موسى الأسود، الذي اشتهر بتحوله العظيم من حياة الخطيئة إلى حياة النعمة من حياة اللصوصية والدماء، تحول إلى أيقونة للسلام والمحبة، يحمل في قلبه إيمانًا لا يتزعزع وصبرًا في مواجهة الشدائد حتى في أصعب الأوقات كان مملوءًا بالسلام والإيمان والثقة بأن الله لا يتركه وهذا ما اكتسبه من العشرة الحقيقية مع الله وتعلمه ولمسه في مواقف عدة شدده فيها الأنبا إيسيذورس والأنبا مقار.

 

وكما مكتوب في الكتاب المقدس عاش، وعاش بالإيمان والثقة في وعود الله في الكتاب المقدس حيث نجد في سفر المزامير مكتوب: "اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْنًا فِي الضِّيْقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا" (مزمور ٤٦: ١). ولقد كانت هذه الآية مرشدةً له في كل محنة يواجهها، فهي تذكره بأن الله هو ملجأه وقوته في كل ضيق وأنه ليس بمفرده فيها، بل كما عضد الله دانيال في جب الأسود، وسار مع الفتية في وسط الأتون، كان موسى واثقًا بأنه لا يسير وسط المحن بمفرده، ولكن وسط كل محنة رغم صعوبتها وقسوتها تحيط به يد القدير ليسقط عن جانبه ألوف وربوات ويحميه من فخ الصياد.

 

وفي يوم من الأيام، بينما كان الأنبا موسى يجلس مع إخوته في ديرهم، أخبروه الآباء بأن البربر على وشك مهاجمة الأسقيط. وكانوا يفكرون في الأمر ويتشاورون عما سيفعلون في حالة الهجوم، ولكن عندما سألوه: "ماذا نفعل يا أبانا فالبربر على بعد خطوات منا"، ولكنه رد بهدوء المؤمن وسلام الشخص الواثق قائلًا لهم: "ها قد جاء البربر اليوم إلى الأسقيط، فقوموا واهربوا". 

 

لكن الإخوة، المستعدين للتضحية بحياتهم، سألوه: "وأنت يا أبانا ألا تهرب؟" فأجابهم بثبات: "إنني أنتظر هذا اليوم منذ عدة سنوات لكي تتحقق كلمة فادينا: «كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!» (متى ٢٦: ٥٢)."، فهو لم ينسى أنه قتل كثيرين وشعر بأن لحظة أن يستشهد لأجل اسم المسيح قد حانت، ليكلل باكليل الشهادة ويظفر به كشهداء المسيح الذين سفكوا دمائهم لأجل اسمه، ويكون شهيدًا بحياته مع المسيح وشهيدًا للإيمان بسفك دمه لأجل المسيح.

 

ولقد كان الأنبا موسى على استعداد لمواجهة الموت بشجاعة مثل الفرسان ومثلما عاش حياته شجاعًا جسورًا لا يهاب أي شيء، سواء قبل إيمانه أو بعدما أمن وصار مسيحيُا، مستندًا إلى كلمات السيد المسيح. وعندما رأى إخوته إيمانه وثباته، قرروا البقاء معه حتى النهاية، قائلين: "إذن، فنحن أيضا لن نهرب بل سنموت معك". 

 

فثبات الأنبا موسى كان درسًا ومنارةً لهم ليهتدوا إلى ما يريدوه، فالرهبنة في أساسها هي موت عن العالم كي يحيا الراهب في المسيح، وما أجمل أن يموت الإنسان على اسم المسيح الذي خلصه وأن يكون شهيدًا من أجل اسم رب المجد، ولكن رد عليهم أبانا الطوباوي قائلًا: "هذا ليس شأني بل حسب رغبتكم، فليهتم كل واحد بالمكان الذي يريده لنفسه".

 

ولكن كلمات الكتاب المقدس كانت تنير في قلوبهم وترشدهم، فكانت كلمات المزمور إذ قال: "الرَّبُّ يُعْطِي عِزًّا لِشَعْبِهِ. الرَّبُّ يُبَارِكُ شَعْبَهُ بِالسَّلاَمِ." (مزمور ٢٩: ١١). هذه الآية كانت حية في قلوبهم، تعطيهم القوة والسلام في تلك اللحظات الحرجة وتطمئنهم بأنهم ليسوا بمفردهم، وأن سلام الله يحيط بهم ويحميهم، وحتى أن جازت عليهم تيارات الإضطهاد هو قادر أن يمنحهم السلام والهدوء.

 

ثم اقترب البربر من الباب، وفي غضون لحظات، اقتحموا المكان وقتلوا الإخوة دون رحمة أو شفقة على سنهم أو شيخوختهم. ولكن واحدًا منهم، في خوفه، هرب واختبأ خلف سعف النخل. زهناك، شاهد سبعة أكاليل نازلة من السماء، تستقر على رؤوس الشهداء. 

 

وبينما هو في رهبة من هذا المنظر السماوي، رأى ملاك الرب ومعه إكليل آخر، ينتظره. فخرج من مخبئه مسرعًا إلى البربر، لينال إكليل الحياة بيده، فحتى أن تملكنا الخوف أحيانًا أو اهتززنا في وجه التجارب الصعبة، لا يفقد الله فينا الأمل، بل ينتظرنا حتى نتشدد ونعود للطريق الصحيح معه.

 

وباستشهاد القديس العظيم القوي الأنبا موسى الأسود هكذا، تحقق نبوءة أنبا مقار على القديس الشهيد أنبا موسى، الذي أعتبره التاريخ أحد أعظم الآباء. رقد الأنبا موسى في سن الخامسة والسبعين، تاركًا وراءه سبعين تلميذًا، حاملين نور إيمانه وشجاعته، وظل وسيظل دومًا أيقونة التوبة الملهمة لكل إنسان يظن أنه ليس له خلاصًا، أو أن الباب أغلق وليس له فرصة للرجوع لحضن الله الذي أحبه.

 

وفي سيرته نجد دروسًا عميقة عن قوة الإيمان، والتضحية، والمحبة التي لا تعرف الخوف. إن حياته تشهد بأن الإيمان الصادق يمكنه أن يحول أعظم الخطاة إلى قديسين عظماء، وأن الشجاعة في مواجهة الموت تجلب أكاليل الحياة الأبدية. فالكتاب المقدس هو الذي قال: "طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ." (يعقوب ١: ١٢).

 

 

فقد كانت حياة الأنبا موسى الأسود مثالًا حيًا للقداسة والشجاعة، مستندًا إلى كلمات الكتاب المقدس جاعلًا منه دستورًا يعيش به، وسراج نور يهتدي به في كل خطواته، وظل عائشًا بالإيمان، ومات بالاستشهاد من أجل اسم المسيح ليظل رمزًا حيًا للإيمان المسيحي الذي يتغلب على كل عقبة ويمنح السلام والأمل في أصعب الأوقات.
للمتابعة على قناة التليجرام: @paulawagih

الجريدة الرسمية