رئيس التحرير
عصام كامل

القوي

جهاد مستمر (2)

بدأ القديس موسى الأسود طريق جهاده بمحبة وإيمان، وكان يحاول طوال الوقت ألا يحيد عن طريقه الجديد الذي بدأ فيه، ولكن كعادة عدو الخير، لا يترك أبناء المسيح يسلكون في النور ويريد دائمًا أن يقع بهم في بحور ظلمات الخطية، وكلما رأى أن أبناء المسيح قاموا من سقوطهم، جن جنونه وركز كل حيله ضدهم حتى يسقطوا مجددًا.

وربما هذا بالفعل ما حدث كثيرًا في بداية درب القديس موسى الأسود، فهو كلما حاول أن يظل محافظًا على خطواته الأولى في طريق التوبة والجهاد، كان يضربه الشيطان بطرق شتى، محاولًا أن يُسقط به في شباكه الملعونة حتى يفقد رجاءه، ويعود لطريقه الأول والذي تركه حتى يعيش في النور ويترك الظلام الذي عاش فيه لسنوات كثيرة ضاعت من عمره بعيدًا عن حضن الله والنور الذي أشرق في قلبه بعودته لحظيرة المسيح الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ.

حروب وانتصار

ومن الحكايات التي تذكر عنه، أنه عندما بدأ يداوم على الصلاة والصوم والتأمل، حاربه الشيطان بشدة، خصوصًا في شهواته الجسدية، حتى أوشك على اليأس والرجوع إلى حياته السابقة. أخبر موسى الأب إيسيذورس بذلك فقال له: "لا تحزن، فإن رياح التجارب ستقلق روحك لمدة طويلة فلا تجزع". 

وضرب له مثلًا في خطورة اتباع هوى الجسد قائلًا: "إن الكلب الذي تعود أن يحوم حول ملحمة الجزار لا تضيع منه هذه العادة في يوم واحد، ولكنه إذا وجد المحل مغلقا زمانا طويلًا أو أنه لا يوجد من يلقي له بالعظام؛ فإن الجوع يجعله يبحث عن مكان آخر. فإذا ثابرت على الصوم والسهر واحتقار أباطيل هذا الدهر ستنتصر على شهوات الجسد، وسترى كيف أن هذا الجسد الثائر عليك سيهدأ ولا يعود يطلب شهواته القديمة، وأن الشيطان سيفارقك وهو يائس".

فأطاع القديس موسى الأسود، ومارس أنواعًا كثيرة من إماتة الجسد، وظل يأكل القليل من الخبز مرة واحدة في اليوم فقط، مثابرا على الصلوات وعمل اليدين. قيل عن أنبا موسى إنه في بدء رهبنته مارس النسك بغيرة شديدة، فكان لا يأكل سوى خبز جاف بالإضافة إلى حمله للأثقال، كما كان يقول خمسين صلاة كل يوم، وهكذا كان يميت جسده، إلا أنه كان يشعر كأن نارًا تشتعل في ميول وشهوات الجسد، وظلت الأحلام تزعجه.

ثم ذهب إلى أبيه أنبا إيسيذورس مشتكيا من هذا الصراع العنيف قائلًا: "ماذا أفعل يا أبي؟ إن الأحلام الشريرة تظلم ذهني فتستيقظ في كل الميول النجسة ولا سيما بالليل حيث تصور أمامي الحفلات الصاخبة التي كنتُ أشارك فيها في العالم وكل مشاعر الخطية!" فأجابه الأب: "هذا يحدث لك لأنك لا تهرب من تصوراتك، فواظب على السهر مع الصلاة الكثيرة والصوم، وكن متيقظا وتحكم في حواسك، وثق أنك ستنتصر على الشيطان وتتغلب على جسدك الثائر".

لسنا بمفردنا!

ثم حدث أن موسى عندما حاربه الزنى بشدة لم يستطع البقاء في قلايته، فذهب إلى أنبا إيسيذورس وأخبره، فنصحه الشيخ أن يرجع إلى قلايته، فقال له: "لا يمكنني يا أبي"، فأخذه إلى السطح وقال له: "انظر إلى الغرب"، فنظر موسى ورأى جيشًا من الشياطين مستعدًا للقتال. 

ثم قال له: "انظر إلى الشرق" فنظر ورأى جمهورًا لا يُحصى من الملائكة المنيرين بمجد. فقال له أنبا إيسيذورس: "هؤلاء الذين في الغرب هم الذين يحاربوننا، أما الذين في الشرق فهم الذين يرسلهم الرب لمعونتنا، فإن كانت ملائكة الله تحارب عنا فلنتقوَ، لأن الذين معنا أكثر من الذين علينا".

الخلاصة

من خلال هذه القصة، نرى أن التوبة الحقيقية تتطلب الجهد والمثابرة والإيمان العميق. موسى القديس، بعدما كان قائدًا للأشرار، تحول إلى نموذج يحتذى به في التوبة والطاعة لله. كانت حياته مثالًا حيًا على أن النعمة الإلهية يمكن أن تحول أسوأ الخطاة إلى قديسين إذا ما استجابوا لدعوة التوبة بصدق وثبات.

 

ومن خلال هذا كله، نرى كيف أن التوبة الصادقة والالتزام بالتعاليم الروحية يمكن أن يغيرا حياة الإنسان تمامًا، محولين الظلام إلى نور واليأس إلى رجاء، بفضل رحمة الله ونعمته.

للمتابعة على قناة التليجرام: @paulawagih

الجريدة الرسمية