رئيس التحرير
عصام كامل

سنوات وما زال بالقلب

أتذكر منذ عدة سنوات، عندما أخبرتني أمي أننا سنذهب في رحلة إلى أديرة وادي النطرون حتى نرى كهنة كنيستنا الجدد الذين قد تمت سيامتهم على يد قداسة البابا شنودة الثالث -مثلث الرحمات والطوبى- حينها، وكانوا يقضون فترة الأربعين يومًا التالية للسيامة في دير الأنبا بيشوي ببرية وادي النطرون.

 

وحينها أتذكر فرحة والدتي وأخوتي بالأباء الجدد لأنهم يعرفونهم منذ زمن طويل، لكن وقتها لم يكن لي احتكاكًا إلا بأبونا بولس القمص يوحنا فؤاد نظرًا لأنني كنت أراه عندما أذهب إلى مدرسة الألحان في الكنيسة، ولكن فؤجئت أن الأباء الآخرين كانوا خدام اخوتي في مدارس الأحد في صغرهم، وكانوا يذهبون لمؤتمرات ورحلات سويًا.

 

ولكن وأنا في الدير لفت نظري أحد الأباء الجدد والذي عندما رأني وقتها وأنا كنت مازلت في مرحلة الإستشفاء والتأهيل بعد إجراء عملية جراحية في سيقاني، وصار يهتم بي يومها بطريقة ملفتة وأبوية جميلة لن أنساها، وعرفت أنه أبونا بولا رأفت كاهن كنيستنا الجديد حينها، والذي يومها ظل يلاطفني ويلاعبني ويمزح معي وكأنه لا يرى أحد في الحضور غيري.

 

وأتذكر عندما أراد أن يعرفني بنفسه، أول جملة قالها: "فرحان إني أول مرة أشوفك من بعد ولادتك، بس عارف؟ فرحان أن إسمنا بقى واحد"، وابتسمت وتعلقت في حضنه فأنا وقتها كنت الطفل وهو كان وظل حتى لحظة نياحته الأب والراعي الحنون والجميل والوديع والمدهش في صفاته الجميلة.

 

ومرت أيام وصرت أرى مواقف خدمته وأتعجب منه، كيف يستطيع أن يجعل كل شخص يشعر وكأنه يخدمه هو فقط؟ كيف يسحر القلوب بابتسامته العفوية والمليئة بالحياة؟ وكيف يستطيع أن يخدم الكل خدمة فردية ولكن بطريقة خاصة وملفتة، فأنا أتذكر عندما طلبت والدتي منه أن يصلي لجدتي لأنها كانت في أيامها الأخيرة، ولم يسألها عن ميعاد أو أي شيء، ولكن بعدها وهي سهرانة في المستشفى وجدته أتى عند منتصف الليل ووقف بجانب جدتي وصار يصلي وهو يبكي بحرارة وقال لوالدتي بعدها أن جدتي بمثابة أم له.

 

ومرت الأيام وسافرت لروسيا حتى أدرس هناك، وكنت قلما ذهبت إلى كنيستي الأصلية عند رجوعي نظرًا لارتباطي بخدمات في كنائس أخرى عند رجوعي في اجازات هنا في مصر، حتى ذهبت في مرة بسبب جنازة أحد اقاربي ويومها تقابلنا بعد الصلاة على الجثمان، فوجدته يعانقني بشدة ويقبلني.

 

وعندما أردت أن أقبل يديه رفض، فأخبرته أني أريد فقط أن أقبل الصليب فمده نحوي، وحين قبلته ورفعت رأسي وجدته ترك الصليب في يدي فقلت له: صليبك يا أبي، فابتسم وقال: أخدت إسمك، خد أنت صليبي بقى، وتركنا بعضنا البعض ومشينا، وبعدها بشهر عندما علم أنه صدر لي كتاب "7 برمهات" وجدته يتصل بي ويطلب مني إحضار نسخة له في الكنيسة، وذهبت في الميعاد فوجدته ينتظرني وعندما رأني استقبلني بحفاوة رهيبة وصار يهنئني على كتابي الجديد.

 

وبعدها أتت أزمة الكورونا ولم نلتقي، حتى سافر للسماء إثر اصابته بذلك الفيروس الذي أتى إلى العالم حتى يذهب الطيبين والوديعيين من بيننا إلى وطنهم السمائي بسببه، وتأثرت جدًا لرحيله، ولكنه كان دومًا يعزيني سواء بسيرته الطيبة أو مواقفه النبيلة التي كنت ومازلت أسمعها من الناس عنه، أو حتى في هدايا كانت تصلني بمقتنيات تخصه، حتى أنني أظن أني سعيد لأني مازال لدي صليبه وقطعة من ملابسه للخدمة في القداس الإلهي التي وصلتني في عيد ميلادي الحقيقي وليس المدون في الأوراق الرسمية ويسبق عيد ميلاده الأرضي بأربعة أيام.

 

 

ربما خسرتك يا أبي بيننا على الأرض هنا كأب وخادم حقيقي كان يخدم الكل ومحبًا للكل، ولكن يقيني أننا اكتسبناك شفيعًا وملاكًا يصلي لأجلنا وسط قديسين السماء ومع محافل الملائكة والأربعة والعشرون قسيسًا أمام العرش الإلهي، وإلى أن نلقاك نطلب صلاتك من أجلنا.
للمتابعة على قناة التليجرام: @paulawagih

الجريدة الرسمية