الست.. كلاكيت تالت مرة
منذ صباي وأنا أجد صوتها يتجول في بيتنا الريفي وكأنها واحدة منه تشدو بأغنيات لم أكن وقتها أفهم معاني كلماتها أو أعي قيمة ألحانها.. وكثيرا ما سألت والدي ماذا تعشق في رق الحبيب وواعدني؟! وما الجمال في هو صحيح الهوا غلاب؟!
ولأنه رحمة الله عليه كان معلمي ومرجعيتي وصديقي وضع عقلي ووعيي علي أول طريق عشقي للست أم كلثوم كما كان يسميها هو وجيله، وكلما زاد العمر سنة زاد عشقي للست سنوات وأصبحت صديقتي هي وشعراء اغنياتها وملحنوها خاصة العبقري بليغ حمدي الذي تشعر عندما تسمع ألحانه للست وكأنك تسكن ليلًا شتويًا هادئًا.
وبعد أن أصبحت واحدة من أبناء الإذاعة المصرية العريقة دخلت حياة الست من خلال سيرتها الذاتية التي حملت عنوان أم كلثوم التي لا يعرفها أحد، للكاتب الرائع الراحل محمود عوض وقدمتها في أحد برامجي.
ولفت نظري في الفترة الأخيرة هذا الجدل الدائر حول تجسيد النجمة منى زكي لشخصية الست.. والتي قُدمت قصة حياتها في عملين مسلسل بطولة الفنانة صابرين وفيلم بطولة الفنانة فردوس عبد الحميد، وأستغرب هذا الجدل الذي بدأ قبل أن نرى العمل فكيف نحكم على عمل لم نره.
وأكثر ما لفت انتباهي في دائرة الجدل هذه هو ما قيل عن عدم الشبه الشكلي أو الجسماني بين منى زكي وأم كلثوم.. وهل كان هناك شبه بين بطلتي المسلسل والفيلم وأم كلثوم؟!
والسؤال.. عند سرد السير الذاتية للمشاهير على الشاشة هل نقدم تشخيصًا وتمثيلًا وفننًا وإبداعًا أم نقدم تقليدا؟ والإجابة بالتأكيد أننا نقدم فنًا وإبداعًا.. لذلك فلابد أن نعرف أنه لا توجد قاعدة حاكمه عند تقديم دراما السير الذاتية على الشاشة.
فهناك أعمال فنية حرص مبدعوها على أن يكون البطل قريب الشبه جدًا من صاحب السيرة وقد نجح بعضها مثل الفيلم الأمريكي غاندي للمخرج ريتشارد اتنبره، وحصل الفيلم على ثمان جوائز أوسكار، والبعض الآخر لم تلق نجاحًا باعتراف صناعها مثل مسلسل العندليب حكاية شعب، رغم تقارب الشبه بين البطل والعندليب.
وعلى الجانب الأخر.. لم يكن الفنان محسن محيي الدين شبيها للمخرج يوسف شاهين عندما جسد شخصيته في فيلم يتناول سيرته الذاتية وهو إسكندرية ليه، والحاصل على جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين عام 1979، ولم يكن ايضًا النجم نور الشريف شبيها ليوسف شاهين في حدوتة مصرية، وقد رفض نور الشريف أن يكون نسخة باهتة من شاهين للدرجة التي رفض أن يتكلم بلعثمة شاهين التي لازمته حتى رحل.
والغريب والعجيب أيضا أن يوسف شاهين عندما قدم شخصيته الحقيقية في فيلم إسكندرية كمان وكمان، لم يلق نفس نجاح نور الشريف عندما قدمه على الشاشة.
وقد كان الكاتب الراحل توفيق الحكيم لابد أن يقرأ سيناريو أي رواية له تقدم على الشاشة ويوافق عليه، بعكس الاستاذ نجيب محفوظ، وقد رحب الحكيم بتجسيد النجم الراحل نور الشريف شخصيته في فيلم عصفور من الشرق، بل وظهر معه في أحد مشاهد الفيلم ولم يكن نور الشريف شبيه الحكيم.
وأيضا جسد النجمان أحمد زكي ومحمود يس شخصية عميد الأدب العربي طه حسين في الأيام وقاهر الظلام على الترتيب، وليس هناك أي شبه بينهما وبين العميد وإن كنت أري أن عبقرية الأداء عند أحمد زكي جعلته يؤدي الدور بروح طه حسين.
أما في السينما الأمريكيه فهناك فيلم مالكوم اكس للمخرج سبايك لي فلم يكن دنزل واشنطن بطل الفيلم صورة طبق الأصل من صاحب السيرة الأصلي، وأيضا فيلم أوبنهايمر للمخرج كريستوفر نولان لم يكن كيليان مورفي صورة من أوبنهايمر.
إن دراما السيرة الذاتية لا تكتسب نجاحها من التشابه الشكلي بين بطل العمل وصاحب السيرة وإنما تكتسبه في رأيي من مصداقية التقديم أولًا وأخيرًا.. أن نقدم هؤلاء المشاهير على أنهم بشر يُخطئون ويُصيبون لا ملائكة بأجنحة من نور.
وربما من وجهة نظري كان هذا سببًا في نجاح مسلسل أسمهان الذي قامت ببطولته النجمه سلاف فواخرجي والتي لا تشبه أسمهان شكلًا، ولكن العمل كان لديه من المصداقية ما أهله للنجاح، والقارئ لكتاب أسمهان تروي قصتها للكاتب الصحفي الراحل محمد التابعي سيجد أن المصداقية هي الأساس لنجاح أي عمل فني وبعدها يأتي كل شيء.
ولأن التمثيل هو فن الإيهام والمحاكاة والتشخيص شرط أن يحترم صناع العمل تلك القواعد الثلاث فلا يشترط من وجهة نظري أن يكون النجم صورةً طبق الأصل من صاحب السيرة الذاتية التي يقدمها الأهم هو احترام عقلية المتلقي حتى وإن كان بسيطًا.