رئيس التحرير
عصام كامل

لكل مكان.. حميدتي

على مدار أسبوع كامل، وأنا أقلب صفحات التاريخ القريب والبعيد فى بلادنا وغيرنا، اقرأ سطورا من قصص أبطال من نوع خاص.. أبطال صنعتهم دولهم أو أجهزة بلادهم ليكونوا عونا لهم فى مواجهة ظروف طارئة.. كيف كانوا وكيف أصبحوا وكيف انتهى بهم الأمر؟


قرأت عن شخصيات قد لا تكون معروفة للعامة، وعن شخصيات تناولتها السينما المصرية، وعن شخصيات أصبحت فى دائرة الأخبار العالمية وعن شخصيات لم تعد نصوصا سرية، وأخرى عاشت وقضت دون أن يسمع بها أحد رغم أهميتها ومن أبطال حارات إلى زعامات دولية كانت حكاياتهم مصدر إلهام وناقوس خطر.


قرأت عن عزت حنفى بطل النخيلة وما آلت إليه نهاياته وقرأت عن عماد المجنون زعيم الصحراوى الذى تمرد على صانعه، فلم يكن له طريق إلا الموت، وعن إبراهيم الأبيض وكيف انتهى قتلا بيد من صنعوه بعد أن تمرد عليهم، وهو الذي  كان واحدا ممن يأتمرون بأوامر أصحاب قرار، وقرأت عن بلطجية وفتوات بعضهم لا يزال بيننا له دور ويحظى بمكانة بين الكبار.


ومن باب ذكر فإن الذكرى قد تنفع المتغافلين والمتجاهلين والذين فى قلوبهم مرض، وذكر فإن الذكرى وعاء التاريخ وإلهام المتناسين وناقوس يدق أبواب الذين يتصورون أنهم غير، وأنهم يمسكون بزمام الأمور وأنهم على غيرهم قادرون وأنهم أصحاب القرار بلا شريك.

انقلاب حميدتى

تقول وقائع التاريخ القريب منا زمانيا وجغرافيا، إن بلدا مثل السودان الشقيق حكمه رجل لا يعرف من الحياة إلا مصالحه فراهن على كل شيء دون الوطن، فوقع فى المحظور عندما قرب إليه عصابات تقاتل بالنار أبناء جلدته وبلاده فلم يكن من تلك العصابة إلا الانقلاب عليه وعلى الوطن.


ظهر النموذج الأشهر من هذا النوع فى محيطنا العربى محمد حمدان دقلو -الشهير بحميدتى- إلى الوجود كصاحب قوة تحمى قوافل التجارة بحامية من أبناء قبيلته، ليصبح واحدا مهما كرئيس عصابة بعيدا عن الدولة ومكوناتها الوطنية، ويذيع صيته بين الجميع حتى يصل إلى أسماع الشيطان الأكبر الذى حكم البلاد والعباد لسنوات طويلة فقرر الاستعانة به.


أصبح حميدتى يحمل لقبا جديدا “حمايتي” أى الذى يحميني، فقد تصور البشير أن دقلو أصبح مقاتلا من أجل حمايته من شرور تحيط به، ومضت الأيام ليظهر حميدتى الذى انقلب على كل من كان معه من قادة قبيلته وتوسع بقواته التى بلغت حسب تقديرات البعض إلى 40 ألف مقاتل.


كان حميدتى فى البداية يأتمر بأوامر المخابرات والجيش، وشيئا فشيئا أصبح وحده المقرب من السلطة والسلطان بعد أن بات يملك جبالا للذهب سيطر عليها بقواته، وفى وقت قصير أصبح رئيس دولة داخل الدولة حتى انقلب على سلطانه الذى صنعه بيديه.


كان حميدتى واحدا من نجوم الأخبار فى آخر أيام البشير ثم خرج من عباءة المخابرات والجيش وبات قوة لا يستهان بها لجأت إليه دول عربية وغير عربية كميليشيا تقدم خدماتها لمن يدفع، ليستيقظ السودانيون على كابوس تمدد وامتد مع الأيام حتى أصبح القاتل الأول فى تاريخه.

رمز الخيانة

ضحايا حميدتى فى السودان وغيرها بمئات الآلاف.. قتل وتدمير واغتصاب وسيطرة.. أصبح الحامى حرامى وبات جيشا جرارا تستعين به قوى إقليمية مطلوبة ومدعومة من اقتصاديات دول غنية يبث الرعب فى قلوب الجميع بما يتلقاه من أوامر صادرة إليه من خزائن المال.


ضاع السودان ويضيع يوميا على عتبات فكرة شيطانية كانت من إلهام رئيس دولة ضحى باستقرار بلاده من أجل حمايته الشخصية، وتداعت الأمم إلى السودان الشقيق وأصبح قرار استقرارها فى يد عصابة تحمل السلاح، وتمتلك اقتصادا موازيا قد يكون أكبر وأغنى من السودان نفسه.


ومثل أى ميليشيا تبدأ فى كنف شرعية وهمية ثم تذهب بعيدا إلى مصالحها ومصالح مقاتليها.. تاريخيا لم تظهر ميليشيا فى كنف سلطة إلا وتمردت عليها وقد رأينا منذ شهور قليلة كيف تمردت قوات فاجنر الروسية على بلادها وعلى بوتين وكيف صوبت مدافعها ناحية موسكو بدلا من أوكرانيا.


انتهى تمرد فاجنر ولم ينته خطرها مهما تصور البعض فى الداخل الروسى أو خارجه، وتمرد حميدتى أصبح هو معادلة الفوضى فى بلد يعانى من ويلات حرب لا يملك زمام أمرها، وبات الخارج هو صاحب القرار النهائى فيمن يقتل أو يُقتل.. باختصار أصبح حمايتى هو ضلالتى.


يدفع السودانيون ثمن السلطان الذى لم يفكر إلا فى نفسه، تاركا بلاده للخراب والدمار والفوضى، ليصبح من أغنى دولة إلى بلد يعانى أهله من الجوع والخوف والرهبة والقتل والهجرة إلى دول الجوار، وأصبح السودان أرضا خصبة لكل صراعات العالم من خارجه.


بات حميدتى رمزا للعمالة والخيانة والخسة بعد أن كان نجما للأخبار فى قنوات الدولة وصاحب شرعية من أعلى سلطة فيها، وانقلب على جيشه ومخابراته، وبات له جيش يقاتل جيش بلاده وأصبح لديه أجهزة معلومات من الخارج تمده بما يريد من أجل إمعان القتل والتدمير والخراب.

 


والخلاصة أن أى قوة اقتصادية أو عسكرية تنشأ بعيدا عن منطق الدولة حتى لو أنشأتها الدولة لا يمكن الوثوق بها، وقد كان فى تاريخنا الحديث أن الدولة استخدمت عزت حنفى صاحب وقائع النخيلة لمطاردة الإرهابيين فى فترة تاريخية عصيبة فلم يكن منه إلا أن استقل بنشاطه الإجرامي، وأقام سجونا فى جزيرته وحاكم أهلها وقتل بعضهم ووصل الأمر به إلى قتال الدولة.. هل تتذكرون؟

الجريدة الرسمية