متى يفقد التدين صلاحيته؟! (2)
التدين السليم يرقى بصاحبه، ويقربه من الله ويكون دافعًا للعمل والإنتاج والإبداع والإصلاح.. أما التدين الشكلى فهو أحادى النظرة يتشدد في المظهر ويعلى قيمته بينما يغفل الغرض الذي من أجله شرع الله تلك الشعائر! وأكبر دليل على ما نقول هو حديث النبي الكريم "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له".
وهنا يحضرنى ما قاله مفكرنا الكبير الدكتور مصطفى محمود حين لمس هذا المعنى بقوة وسلاسة، يقول: "لا تتوهم أن الدين هو أن تصلي وتصوم وتقرأ القرآن وتزكي وتحج وتنطق الشهاد، وإنتهى الأمر! لا.. هذه العبادات عبادات شعائرية، وهي فرائض ستحاسب عليها لكنك لن تقطف ثمارها ولن تحقق أهدافها إلا إذا صحَّت عبادتك التعاملية.. لن تصح إذا ظلمت وقصرت وآذيت وكذبت وشتمت..
إنتماؤك الشكلي إلى الدين هو بينك وبين الله.. أن تضع صورة للكعبة علي جدار بيتك لا تكفي، وضع مصحف في سيارتك لا يكفي، وآية قرآنية على حائط محلك لا يكفي، ومسبحة في يدك لا يكفي،
وأن تذهب للعمرة ثلاثين مرة لا يكفي !أن تقف على سجادة الصلاة 70 ألف مرة لا يكفي!
الدين هو استقامتك، معاملتك، رحمتك، صدقك، التزامك، عدلك، تربيتك لأولادك، برك لوالديك، إحسانك لزوجك، حفظك لسانك، غض بصرك، عملك، سعيك، نظافتك، ما في جوفك، لسانك.. حسن تعاملك مع الآخرين.. الدين خُلُق".
جوهر الدين
يقول الحسن البصري رحمه الله: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ولم يأتوا الأمر من أوله، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: ٢٩]. وما تدبر آياته إلا اتباعه لعلمه. أما -والله- ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله قد قرأت القرآن كله ما أسقطت منه حرفا.. قد والله أسقطه كله، ما رئي القرآن له في خلق ولا عمل"..
وهذا بيت القصيد، تدبر القرآن ليعقبه عمل بما فيه.. فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.. ولهذا يقول تعالى: "یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفۡعَلُونَ" [الصف ١-٣].
ما أخطر التناقض بين القول والفعل، والشكل والجوهر، مثل هذا التناقض يكون وبالًا على صاحبه.. "عن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه».
وفي رأيي أن نكبة الأمة في قصور فهم بعض بنيها لجوهر الدين وغايته؛ فالبعض يخشى في نهار رمضان أن يبتلع قطرات ماء؛ بينما لا يتورع عن ابتلاع حقوق اليتامى وميراث البنات وأموال الغير.. وفي كتابه "علل وأدوية"، يرى الشيخ الغزالى أنَّ الاهتمام المبالغ فيه بالمظهر على حساب الجوهر سبب في هزيمة الأمة هزيمة نكراء فيقول:
"وعندما يتحول التدين إلى حركات بدن، وإتقان شكل، فإن حقيقته تضيع وغايته تبعد أو تتلاشى. المعنى الأصيل للتدين أن يكون حركة قلب، ويقظة فكر، أما المراسم الجوفاء والصورة الشاحبة فلا دلالة لها على شيء، ومن عجز عن تصحيح قلبه ولبه فهو عما سواهما أعجز، ويوم يتولى عملا ما في المجتمع فسوف يكون نموذجا للفشل لأنه لن يدفع تيارات الحياة إلى حيث يجب، بل ستدفعه هذه التيارات إلى حيث تشاء. وهنا الهزيمة الشنعاء للدين والدنيا".
شعائر الله واجبة التعظيم لا جدال في ذلك “ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ” (الحج:32).. لكن هل يغنى الاهتمام بالشعائر رغم فرضيتها عن ترجمتها لمعاملات حسنة تبنى أواصر السلام والتسامح، وتفضى إلى عمارة الكون كما يحب الله ويرضى؟!