رئيس التحرير
عصام كامل

أنيس على الرصيف

على رصيف محطة القطار، وقف أنيس كشجرة عتيقة، جذوعها غارقة في عمق الوحدة، وأغصانها عارية من أوراق الوداع.. يرتدي الرجل معطفه البني العتيق، حاملا حقيبة جلدية قديمة، كشاهد على رحلة عمره الطويلة.. وجهه حفرت عليه خطوط الزمن، عيونه تفيض بالحنين، وابتسامته خجولة كضوء خافت في ليل دامس.

 

كل يوم، أنيس الذي رغم سنوات العمر يبدو شابا أنيقا، يمضي ساعات طويلة على رصيف المحطة، ينتظر قطارات قادمة ومغادرة. لا ينتظر صديقا قادما، ولا حبيبة عائدة.. ينتظر فقط وجوها غريبة، عابرة، تبحث عن وجهة جديدة، تاركة وراءها ذكريات وأحلاما.

 

في رحلته، فقد أنيس كل أحبائه، رحلوا واحدا تلو الآخر، تاركين له فراغا هائلا في قلبه، عاش حياته وحيدا، بلا عائلة، بلا أصدقاء، يملأ وحدته بصحبة المسافرين.. مع كل قطار يغادر، يعانق أنيس أحد الركاب، عناقا دافئا، صامتا، يحمل في طياته مشاعر لا تقال.. عناق يمنحه شعورا مؤقتا بالانتماء، يخفف من وطأة وحدته، ويشعره بأنه ليس وحيدا تماما في هذا العالم.

 

مع كل قطار قادم، يعانق أنيس أحد القادمين، عناقا يبعث الأمل في قلوبهم، يخفف من غربة السفر، ويشعرهم بأن هناك من ينتظرهم، من يهتم بوجودهم.. لا يعرف أنيس أسماء هؤلاء الذين يعانقهم، ولا يعرف قصصهم، لكنه يشعر بمشاعرهم، يقرأها في عيونهم، يسمعها في دقات قلوبهم.

مسافر عبر الزمن

يصبح أنيس مع كل عناق، صديقا، أبا، أخا، حبيبا، لكل من يشعر بالوحدة والغربة. يقدم لهم دفئا إنسانيا، يشعرهم بأنهم ليسوا بلا قيمة، وأن هناك من يهتم بوجودهم.. ولو لثوان قليلة.. في عيون أنيس حزن عميق، لكنه يخفيه خلف ابتسامته الحزينة.. حزن على ماض جميل ولى، وحاضر قاتم يعيشه وحيدا. لكنه يجد عزاءه في مساعدة الآخرين، في تخفيف وحدتهم، في بث الأمل في قلوبهم.

 

يدرك أنيس أن عناقه لن يغير من واقعه هؤلاء، لكنه يشعرهم بأنهم ليسوا وحيدين، وأن هناك من يهتم بهم. ولو لثوان قليلة.. تمر الأيام ويتكرر الأمر.. ففي كل يوم، ينتظر أنيس موعد وصول القطار المغادر، ليتقدم بخطوات متثاقلة نحو العربات، باحثا عن وجوه حزينة، أو عيون دامعة، تخبئ في أعماقها قصصا مؤلمة.

 

في أحد الأيام وجد أنيس في زاوية هادئة من محطة القطار، رجل طاعن في السن يقف وحيدا، يكسو وجهه شحوب عميق، وتجاعيده تروي حكايات زمن مضى. يرتدي معطفا قديما، يلفه بإحكام حول جسده النحيل، كأنه يحاول حماية نفسه من قسوة الوحدة التي تحيط به.

 

العجوز يراقب حركة المسافرين، يموجون كأمواج البحر، كل منهم يحمل حقيبة أحلامه، ووجهته المجهولة.. يرى في عيونهم مزيجا من الخوف والأمل، ويدرك أنهم يشعرون بالوحدة ذاتها التي تثقل كاهله.

كان العجوز يمد يديه العتيقتين ليعانق أولئك المسافرين الوحيدين، منحنيا ظهره قليلا، كأنه يحاول احتواء حزنهم في صدره الواسع.. يقبل جباههم برقة، ويهمس في آذانهم كلمات المواساة والتشجيع.. أدرك أنيس أنه الآن مسافر في الزمن، وأن ذاك العجوز هو النسخة المستقبلية منه.. فتبسم ومضى نحو نفسه معانقا.

الجريدة الرسمية