السر الذي أخفيته! (2)
لا أنسى أبدًا لحظات صعبة عشتها في محنة المرض، فذات يوم وقبل ثلاثين عامًا اكتشفت إصابتى بفيروس سي؛ ذلك المرض الخطير المثير للرعب وقتها والذي اكتشفته قدرًا حين كنت في زيارة عمل لفرنسا، وقررت من باب الاطمئنان إجراء فحوص طبية في المستشفى الأمريكي، ورغم أن التحاليل أكدت إصابتي بفيروس سي؛ فإنها كما أظهرت الأشعة، لم تكن خطيرة ولم يتأثر بها الكبد بصورة تدعو للقلق.. لكنى قررت الاحتفاظ بهذا السر في نفسي.
ولما تماثلت للشفاء بعد علاج استمر عامًا كاملًا تحملته كاملًا على نفقتي الخاصة الأمر الذي أثار دهشة زميلى الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ سمير رجب رئيس مجلس إدارة دار التحرير ورئيس تحرير جريدة الجمهورية الأسبق حين صارحته بالأمر بعد تحقق الشفاء؛ فأبدى انزعاجه ودهشته وبادرني معاتبًا: لماذا لم تخبرني بالأمر في بدايته؛ فمن حقك على المؤسسة (جريدة الجمهورية) أن تتكفل بعلاجك دون أن تتكلف شيئًا على حسابك..
فقلت له: لقد فضلت الاحتفاظ بالسر في نفسي نظرًا لحساسية الموقف وخطورته؛ فمجرد أن يعرف المحيطون بك بأمر مرضك إما أن ينتابهم القلق عليك نظرًا لخطورته، أوينتابهم القلق على أنفسهم خشية انتقال العدوى إليهم.. وتلك مخاوف مشروعة لا غبار عليها؛ فالإنسان بطبعه تنتابه الوساوس وتستبد به المخاوف.. يقول الله تعالى "إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا".
حكايات مؤلمة
فيروس سي كان يثير الرعب في النفوس؛ ذلك أنه كان ينهش الأكباد في صمت، ولم تكن حالات كثيرة تكتشف إلا في مراحل متأخرة؛ وحينها يصبح الشفاء منه أمرًا صعبًا أو بعيد المنال.
وثمة حكايات مؤلمة كثيرة مع هذا المرض الفتاك، لا تزال الذاكرة تحتفظ بها؛ فثمة مشاهير فارقوا الحياة متأثرين بسرطان الكبد لأسباب عديدة أذكر منهم العندليب عبدالحليم حافظ، الذي أصابته البلهاريسيا وأثناء علاجه منها أصيب بفيروس سي الذي تعددت أسباب انتشاره في مصر في حقبة ماضية، لكن تبقى حقن علاج البلهارسيا أهم عوامل تفشي هذا الوباء لينهش أكباد المصريين بفضل الإهمال الشديد وقلة الإمكانيات وضعف الوعى.
البلهارسيا كانت أخطر ما عرفت مصر من أمراض؛ ذلك أنها تتسبب فى إضعاف وإحباط مناعة المريض، وكان يتم علاجها بحقن "الترتر إنترتيك"، التى كانت تؤخذ بالحقن الزجاجية التي يحتاج تعقيمها إلى فترة طويلة، الأمر الذى جعل الكثيرين يهملون هذا الإجراء فساهم ذلك فى انتشار الفيروسات الكبدية..
ناهيك عن سلوكيات كثير من الحلاقين الذين يعيدون استخدام شفرات أمواس الحلاقة مع أكثر من شخص فتنتقل الإصابة من المريض إلى السليم، كما تتسبب عيادات الأسنان هي الأخرى وضعف إجراءات تعقيم الأدوات في نقل نسبة لا بأس بها من العدوى من المصابين بالفيروس الكبدي سى.. الحمد لله الذي وفق العلماء لاكتشاف علاج ناجح لفيروس سي!
نرجو أن يأتي يوم يتوصل فيه العلماء بفضل من الله لعلاج ناجح للسرطان وغيره من الأمراض المهلكة.. يقول الله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ" {يونس:57}.
