بالمؤمنين رؤوف رحيم (6)
مواطن كثيرة، لا تعدُّ ولا تُحصى، من الرحمة تجلت في رحمته صلى الله عليه وسلم حتى بأعدائه الذين يناصبونه العداء، ويسرفون في ذلك، ويبذلون الجهد لإيذائه.. نتذكر هنا قصته مع أهل الطائف حين أتاهم يدعوهم إلى دين الله، فأطلقوا عليه غلمانهم وسفهاءهم ليرموه بالحجارة ويؤذوه بسفيه الكلام وساقطه..
وحين جلس عليه أفضل الصلاة والسلام يناجي ربه ويسأله الرحمة والعافية لا يدعو عليهم، في دعائه الخالد الذي جاء فيه: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري..
إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده
وحين يأتيه الملك الموكَّل بالجبال فيقول له، إن الله بعثه إليه ولو أمره لأطبق على قومه الذين كذبوه وآذوه الأخشبين، وهما جبلان عظيمان، لكن النبي حتى برغم الألم والمعاناة من أولئك الناس يقول: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا".
وفي السياق نفسه، تأتي قصة رحمته بقومه وهو المنتصر المسيطر في فتح مكة حين قال لهم بعد أن مكنه الله منهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
كم عفا، صلى الله عليه وسلم، عن شقي آذاه، وكم صفح عن مجرم أقرَّ بجريمته، وما قصة الشاعر الجاهلي كعب بن زهير، من ذلك ببعيد، فقد أساء كعبٌ بن زهير إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، في قصيدة له، ثم ندم، وخاف أن ينتقم منه الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويقتله، فأخذ يتفنن في الحيل والوسائل حتى وصل إلى سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم.
العفو عن كعب بن زهير
خرج كعب بن زهير حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينهما معرفة من جهينة.. فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح، فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا رسول الله، فقم إليه فاستأمنه.
فقام ابن زهير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه فوضع يده في يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، (أو هكذا بدا له، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الخبر من السماء، فكيف لا يعرفه؟!)، فقال: يا رسول الله! إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير. فوثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه عنك فقد جاء تائبا نازعا عما كان عليه.
فقال ابن زهير قصيدته اللامية التي أولها:
"بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ... متيمٌ إثرَها لم يُفدَ مكبولُ
وما سعادُ غداةَ البينِ إذ ظعنوا إلا أغنٌ غضيضُ الطرف مكحولُ".