حتى لا تغرق السفينة بعد تعويمها
يمكن القول إن المثل المصرى العريق (وقوع البلاء ولا انتظاره) قد تحقق بالإعلان المفاجئ للبنك المركزي عن تحرير سعر الصرف للجنيه في مواجهة الدولار، وبالفعل، ومنذ صباح الأمس، ومع إعلان الحكومة عن توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على 8 مليارات دولار، وكان الكلام سابقا عن 12 مليارا، وضع المصريون أياديهم على جيوبهم قبل قلوبهم.
مع إعلان البنك المركزى عن التعويم، بدأت موجات متلاحقة من النكات الساخرة والتعليقات المتشائمة، والحق أن كلمة تعويم الجنيه ترتبط في الذهنية المصرية بأمرين أولهما الخوف من خضوع السياسة النقدية المصرية للصندوق، وهذه لا تهم الناس بشكل مباشر كما يهمهم الأمر الثانى وهو أن التعويم يعني فقدان معظم مدخراتهم، وارتفاع الأسعار بشكل وحشي جارف.
هي على كل حال كلمة سيئة السمعة، تحاشاها كل رؤساء مصر ولم يقربوها، والرئيس السيسي نفسه هو من بدأ خطة الإصلاح الاقتصادي في مرحلته الأولى نوفمبر 2016، مجازفا بشعبيته، وتحمل الناس أعباء الإصلاح وقتها ثقة في نواياه الوطنية الإصلاحية، وقدمت الدولة برامج حماية اجتماعية ناجحة.
أسباب تحرير سعر الصرف
اليوم ما الذي اضطر الحكومة إلى الدواء المر؟
في عملية الإصلاح الاقتصادي الأولى في نوفمبر 2016 كانت الضغوط داخلية، خراب 25 يناير الأسود، توقف العمل وتعطل الإنتاج، الإرهاب، أما اليوم ومنذ ثلاث سنوات، فقد تحالفت على الاقتصاد المصرى ضغوط خارجية دولية قاصمة، من كورونا إلى أوكرانيا إلى حرب غزة إلى هجمات الحوثيين علي السفن بالبحر الاحمر وفقدان حوالي خمسة مليارات دولار من إجمالى الدخل السنوى لقناة السويس (عشرة مليارات وأكثر).
أضف إلى عوامل الضغط السابقة تراجع تحويلات المصريين بالخارج بشكل ملحوظ، لتلاعب العناصر الاخوانية بالدولار والمضاربة عليه، والتعامل مع المصريين في الخارج رأسا وتسليم البديل بالعملة المصرية لذويهم عبر عملاء ووسطاء محليين، إنتشروا في القرى والمدن، حقائب محملة ومكاتب سرية مملوءة بملايين الجنيهات نظير مليارات من الدولارات لم تدخل البلد!
مع إعلان البنك المركزي عن سعر الصرف الحر هبطت قيمة الجنيه الى النصف، يعني لو معاك ألف جنيه فهى خمسمائة، ولو مرتبك ستة آلاف فهو ثلاثة، ولو مدخراتك مليون فهى نصف مليون، وهذه كلها قابلة للتغير بالنقصان أو الزيادة.
لم تلجأ الحكومة إلى التعويم لتعذب الناس، هذا منطقى، بل لجأت الى دواء مر مرير لأن العلاج يؤدي إلي الشفاء الكامل، وفقا لتقارير عالمية متخصصة في الوول ستريت جورنال، جرنال المال والأعمال الأمريكي الأشهر، ثم وكالة بلومبرج وصحف عالمية كثيرة رحبت بالإجراء المفاجئ للحكومة المصرية، وقالت وكالة فيتش للائتمان أن اقتصاد مصر سوف يرى النور في آخر النفق!
وكما قال محافظ البنك المركزى حسن عبد الله نحن في البداية، ومعنى ذلك أننا نمضى في النفق الذي في نهايته يسطع ضوء ونهار.
المهم جدا وكما تفهم المصريون دواعي المرحلة الأولى من إصلاح 2016، فتحملوها، أن تكون الحكومة بسلطانها الصارم حاضرة للرقابة على الأسواق، أسواق السلع والخدمات والعملات، ومحاسبة المفسدين والقضاء على الاحتكارات، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية لتضم الطبقة المتوسطة التى تتهاوى حاليا كما تتهاوى طائرة فقدت كل محركاتها على ارتفاع 37 ألف قدم!
وقع البلاء إذن، ووقوعه خير من توقعه طول الوقت، ووجع شهر خير من وجع كل شهر.. الناس في الداخل خائفة، والناس في الخارج ومعهم رجال أعمال مصريون يصفقون للحكومة ويرون قرارتها شجاعة وأنها جاءت في الوقت الحاسم المطلوب.
وفرة الدولار تعنى زيادة الإنتاج ووفرة السلع، تعنى خفض الأسعار، إن لم يحدث هذا التتابع المنطقي كما هو الحال في أي اقتصاد ناجح في العالم، فقل على التعويم إنه أغرق السفينة بركابها، اللهم احفظنا واحفظ بلدنا.