فكهانية مصر
على وتر الأزمة التى حركت سواكن البشر فى غرب الكرة الأرضية قبل شرقها، وعلى مشهد الضحايا من الأطفال الذين نراهم يُذبحون على الهواء مباشرة، وعلى أثر صرخات نساء عربيات تحت الأنقاض وعلى مسافة من ضمير الإنسانية المتهتك، فاجأ بائع البرتقال كل قصور الحكم العربية، فماذا فعل الرجل البسيط؟
تاجر فاكهة على قارعة الطريق يمارس هواية الهرب اليومى من مهندسى البلدية، وأحيانا يتطور الأمر إلى رشوة بعضهم لكى يبقى على رصيف متهالك يبيع فاكهته للمارة.. وجد الرجل البسيط شاحنات قد كتب عليها «غزة»، فهم بفطرته أنها متوجهة إلى غزة.
بتلقائية المصرى الأصيل بدأ يقذف بيديه برتقالات على السيارات المتوجهة إلى أهلنا فى غزة في مشهد أعمق من جولات الساسة العرب، ومن كل تحركات وزراء الخارجية العرب، ومن كل طائرات السيد بلينكن المتوجهة إلى عواصم العرب والعجم، وهو يتدارس منذ أكثر من أربعة أشهر كيف يضيق الخناق وتُترك الفريسة لذئاب الصهيونية ينهشون لحمها ويدفنون عظمها بسلاح أمريكى وغربى.
ألقى الرجل برتقالات وهو ينتظر الشاحنة تلو الأخرى ليخصم من رزق عياله إلى عيالنا في غزة الأبية الرافضة، الصامدة، المنتصرة بكبريائها وعزتها، ألقى الرجل ببعض قوته الذى يناضل من أجله طوال الليل والنهار من أجل أن يسد جوعة أطفاله، في زمن أصبح فيه مجرد الطعام هدفا وغاية لا يطولها الكثير من أبناء الوطن المسحوق تحت نار الغلاء والوباء.
هذا هو الحفيد المصرى لكل أبطال مصر الذين استشهدوا هناك في فلسطين أيام النكبة الأولى، وهو ذاته حفيد أبطال قضوا وهم راضون في حرب 1956م، وهو نفسه قادم من وريد من راحوا ضحايا الغباء والإهمال في حرب 1967م، وهو ذات نفسه حفيد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه عندما اقتنصوا نصرا عظيما قضى على أسطورة الجيش الذى لا يقهر فى حرب أكتوبر المجيدة.
كريم العنصرين
الفكهانى المنهك تحت قصف الغلاء الوحشى نسى تماما أنه يناضل ويجاهد النهار والليل من أجل لقمة يسد بها جوعة أطفاله في بلد كان مخزن غلال العالم، وكان يدين كبريات دول العالم، وكان يستر عورات الشرق والغرب بالقطن الذى ليس له مثيل، فأصبح الآن في خبر كان.
الفكهانى المتعب بفعل عوامل التعرية الحكومية فضل أن يغطى معدة طفل في غزة ببرتقالة، ودون أن يفكر في صغر ما يفعل وضآلته قدم كل ما لديه، ذلك هو الكريم ابن الكريم، ذلك هو كريم العنصرين، ولم يصدق ما يقال على ألسنة الساسة في عواصم العرب والعجم وقدم كل ما لديه.. برتقالة على ظهر شاحنة في طريقها إلى طابور الانتظار المذل على أبواب غزة.
وعلى الوجه الآخر، ترى منا من يقول أمام العالم إنه يجب محاسبة من قوَّى شوكة حماس ومولها لكى تقاوم عدوا محتلا، وفي ذات الوقت هناك وفي الغرب من قال إن حماس حركة سياسية تقاوم محتلا.. يا مثبت العقل في الدماغ يا رب.. يصفونها بأنها حركة مقاومة، ونحن نطالب بمن مولها وجعلها قادرة على الفعل ونحن المفعول به طوعا وكرها.
عبر الفكهانى عن كل مصرى يرفض وضع الأغطية عليه ليلا إحساسا منه بأنه إن فعل فهذه أنانية.. عبر الفكهانى عن كل بيت فقد شابا في حرب مع العدو على مدار أكثر من سبعين عاما، وعبر عن كل أسرة قدمت ولدها ليكون درعا حاميا للوطن وفي القلب منه فلسطين.
وقد أخطأ من قال إن مصر ليست مصر.. مصر هى مصر.. مصر هى هذا الفكهانى، ومصر هى الأم التى قدمت من مصروف بيتها مبلغا إلى جمعية أهلية أو إلى صندوق الزكاة والصدقات ليصل إلى أهلنا في غزة، ومصر هى ذلك الفلاح الذى يتابع ما يجرى وهو مكلوم ومكتوم وغاضب.
مصر هى شعلة الغضب الساكنة في قلوب أهلها، ومصر هى هؤلاء الناس الذين فتحوا لهم استادات الكرة ولم يذهبوا كما كانوا يذهبون، ومصر هى كل مواطن يئن وفي قلبه صدمة وفي عقله شحنة تكاد تنفجر، ومصر هى هذا الشعب الذى لم يتورط يوما في الدم الفلسطينى، ومصر هى الشعب الذى ثار على النكسة وانتصر.
مصر هى الفكهانى الذى يقف على قارعة الطريق مهددا في صباحه ومسائه، ومع كل ذلك سدد برتقالة في قلب كل من يقول إن مصر لم تعد مصر!