هل باع الفلسطينيون أرضهم؟
سؤال يحاول البعض طرحه من وقت لآخر كلما طرحت القضية الفلسطينية نفسها على الساحة الإقليمية والدولية، وعلى الرغم أنه من اليقين أن التاريخ لم يسجل لشعب أنه باع أرضه فإن تكرار القصة الحقيقية يصبح ضرورة ملحة للأجيال الجديدة.
بعشرين ألف جنيه إسترلينى تمكنت عائلة سرسق من شراء أراضى مرج بن عامر الواقعة بين منطقة الجليل وجبال نابلس بفلسطين، ومع مرور الأيام وضيق الحال الذى تعرضت له الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد وصلت أملاك عائلة سرسق إلى حوالى ٣٦٤ ألف كيلومتر مربع.
وعائلة سرسق تعود إلى البيزنطيين، وقد أقامت في لبنان، وتعددت ممتلكاتها بين فلسطين ومصر ولبنان وسوريا، وكانت من العائلات الاستثمارية الكبرى في مجالات الزراعة والنقل، وتعددت محفظتها الاستثمارية وتشابكت علاقاتها بأوروبا وحكام الدولة العثمانية حتى باتوا نافذين في كافة أوصالها.
والسلطان عبد الحميد الذى حاول الحفاظ على بقايا الدولة العثمانية واستمرار حكمه منح الدول الأوروبية والأجانب تسهيلات وامتيازات ليس لها مثيل بدعوى اجتذابهم للإقامة والاستثمار في الدولة العثمانية التى كانت تترنح ساعتها بين البقاء والتلاشى.
تورط أفراد من عائلة سرسق بإهدار أموال طائلة في القمار باليونان، وضاقت أحوالهم، وبدأوا في بيع ما حازوه من السلطان والسلطنة، وبالطبع كان اليهود على الخط يرقبون ويخططون حتى جاءتهم الفرصة، عندما بدأت عائلة سرسق في بيع مساحة ضخمة من أراضيهم إلى الصندوق القومى اليهودى.
اعترض سكان ألف قرية من أهل فلسطين على عملية البيع التى حرمت كل هؤلاء السكان من أراضيهم التى عاشوا عليها وبها ومنها دون جدوى، وتوالت عمليات البيع، وفي كل مرة يكون الصهيونى على خط الشراء بما خطط ودبر، حتى صرنا وصارت القضية التى نعانى وتعانى شعوبنا منها منذ ذلك التاريخ.
استيطان واحتلال
ورغم أن الدولة العثمانية حاولت منع نقل ملكية هذه الأراضى لليهود إلا أن الفساد المستشرى في أوصال دولتهم حال دون ذلك، ومع مرور الأيام ومع محاولات السلطان عبد الحميد البقاء سلطانا على بقايا متناثرة من سلطنتها بعد أن طالتها موجات ثورية ومخططات غربية أدت في نهاية المطاف إلى سيطرة اليهود على الأرض.
وفى تاريخ الأمم ما يسمى بعملية نقل ملكية أراضى من دول إلى أخرى، وقد حدث ذلك مع الولايات المتحدة الأمريكية التى توسعت على حساب جيرانها، وما يحدث اليوم في ولاية تكساس حدث من قبل، ثم عادت تكساس إلى الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى.
وفي تاريخنا الحديث أمثلة كثيرة، منها ما تم بيعا وما تم تحت عناوين أخرى أثارت جدلا واسعا ولا تزال تلقى بظلالها على المشهد، أما قضية فلسطين التى تسببت فيها إمبراطورية فقدت قدرتها على الحفاظ على أراضيها وباعتها بعد أن ضاقت بها الأحوال واستدانت فكانت ديونها سببا لنكبتنا حتى اليوم.
الديون، وما أدراك ما الديون؟ الديون هى الطريق الأسهل للسيطرة على مقدرات الأمم والتحكم في قراراتها، وهو الأمر الذى دفع المناضل العظيم طلعت باشا حرب إلى خوض معركة الاستقلال ببناء اقتصاد وطنى قادر على الحياة والتطور وحماية استقلال مصر فى وقت كانت خارطة العالم تتغير، وها نحن الآن نشهد زلزالا يعيد بناء الكرة الأرضية من جديد وفق خرائط معدة سلفا من أجل الهيمنة والاحتلال والسيطرة.
وقد يضرب البعض لك مثلا بدولة أوروبية تتيح التملك للأجانب دون شرط أو قيد أو أن أمريكا تسمح للأجانب بالتملك دون قيد أو شرط دون إدراك منه أن المحيط الإقليمى الأوروبى حامٍ لدوله، وأن إمبراطورية بحجم أمريكا لا يشغلها تملك الأجانب لأراضيها فهى بقوتها ونفوذها لا يمكن أن تقع تحت السيطرة أو الاحتلال.
أما الدول الصغيرة التى فرض عليها موقعها الجغرافى أدوارا حساسة فإنها يجب أن تتصرف بذات حساسية موقعها ومحيطها الإقليمى، وما جرى في فلسطين خير مثال لفكرة الاستيطان ثم السيطرة ثم الاحتلال بالقوة، وخلق واقع جديد أفقدنا استقلالنا، هذا الواقع كان إفرازا لفكرة نبيلة لجذب الاستثمار الأوروبى، وكانت نتيجته أرضا محتلة وشعبا يمحو آثار الخطيئة بدماء أبنائه.
ومن السرد الذى سجلته صفحات التاريخ فإن الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد هى التى تورطت في بيع الأراضى بطريقة غير مباشرة لليهود، وإن كان المحسوبون على التيار الإسلامى يرون في السلطان عبدالحميد أنه ضد هجرة اليهود لفلسطين فإن التاريخ يثبت أنه باع لسرسق باشا، وربما لم يكن يعلم في ذلك الحين أن سرسق باشا سيبيع لليهود، وهكذا فإن المخاوف تأتى دوما من كل سرسق يظهر زمنيا ومكانيا.