حر وحرب.. يا له من عام لعين!
نطلق الأسماء الوصفية على الأعوام والسنين، كما نطلقها على الآدميين، فهناك عام الرمادة، وهناك عام المجاعة، وعام أسود وعام رمادى، على ألسنة العوام عادة.. فكيف يكون إسم هذا العام الذي يرحل اليوم ثقيلا بغيضا مكروها؟
إنه عام التغير المناخي الأكبر الذي لم تشهده البشرية منذ قرون، فقد اجتاحت الحرائق الغابات والحجر والبشر، حرائق سببها ذلك الارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة، وعاش العالم معنى الصهد والسعير ولسعات من شواظ جهنم على الارض، وفي بيوتنا اختنقنا عرقا وخناقات..
أما العرق فبسبب ضغوط الأباء لإغلاق أجهزة التكييف ووقف نزيف الفواتير، وأما الخناقات فبسبب رفض بقية أفراد الأسرة الانصياع لتوسلات رب الأسرة أن تحملوا كما كنا نتحمل في الزمن القديم، ويردون عليك أن ها انت قلتها إنك من الزمن القديم، وهذه حرارة اليوم، وعلي أيامكم كنتم تتحدثون عن طراوة العصارى، ونسمات الليالي الصيفية.. يسخرون أن ذلك مضى وانقضى.
حرارة تجاوزت الخمسين في الخليج، واقتربت منها في مصر، وعرفت لندن وباريس وروما حرارة شرق أوسطية، وجفاف أنهار، واحتراق محاصيل..
حرائق وحروب وغلاء فاحش
وذات يوم في إبريل فتح العالم عيونه علي تمرد داخل الجيش السوداني بين البرهان ودقلو قائد ما يسمى بالدعم السريع، ولاتزال الحرب الأهلية تدمر في البنية الاساسية وتستنزف السودان الحبيب، وعمليات قتل ونهب واغتصاب يقوم بها جيش المتمردين، ولم تفلح أية مبادرات عربية في كبح جماح القوات المتمردة علي الجيش الوطني السوداني..
يتزامن ذلك مع استمرار الحرب الروسية الامريكية عبر أوكرانيا، وتداعياتها الجسيمة علي الموارد الغذائية وانهاك اقتصادات الدول الضعيفة اقتصاديا مما أنهكها. وافقر شعوبها، ونحن منهم!
فمع اندلاع هذه الحرب هربت رؤوس الأموال الساخنة كلها من مصر وهي بالمليارات مما ترك الوضع المالي لمصر مكشوفا وعرفنا ضائقة الدولارات، بالارتفاع الجنوني في أسعار الأكل والشرب والعلاج، وكل شئ، بل تسابق تجار مصريون ملاعين إلى التخزين واحتكار السلع بلا حياء ولا ضمير..
وتشكلت عصابات بوزارة مثل التموين والله أعلم بمن في غيرها للمتاجرة بأقوات الشعب، وصحيح تم القبض عليهم، لكن بعد كم من الوقت؟ وكم من العذاب؟ وكم من المليارات المنهوبة من الغلابة؟
ويمضي العام ما بين سعرة الأسعار والتجار، وحرب السودان واجتماعات جدة، وقصف روسيا لأوكرانيا، ومحاكمات دونالد ترامب، حتى إعتاد الناس على مكونات الصورة اليومية للأحداث المحلية والاقليمية والدولية: غلاء فاجر واحتكاريون لصوص.
ثم دماء زكية تراق علي أرض السودان ونزوح سبع ملايين سوداني داخل بلادهم وإلي تشاد ومصر، ثم تبادل حرب المسيرات بين كييف وموسكو.. مشاهد يومية أخذ الناس ينصرفون عنها وينقلبون إلى مطاردة كيس سكر مختف، وكيس أرز مكسر وربطة بصل ناشفة!
ذلك كان هم المصريين الأكبر، وياللعجب، فهذه السنة الغريبة هي أيضا سنة الانتخابات الرئاسية في مصر، ولكنها لم تكن في مقدمة اهتماماتهم، لسببين، أولهما الثقة في نجاح المرشح الرئيس السيسي، وثانيهما، غلبة هم البيت على هم السياسة أي اختفاء السلع وتخزينها وجنون الأسعار..
وهكذا صار الحال حتى وقع المحال فبينما إنهمك الجميع هنا في احتفال واحتفاء غير مسبوقين بمرور 50 عاما علي انتصار مصر في حرب أكتوبر عام 1973، وإذا بالمقاومة الفلسطينية تشن حربها في السابع من اكتوبر، وتقتحم الأسوار العازلة مع مدن غلاف غزة وتقتل 1400 وتختطف 250 رهينة مدنيين وعسكريين ليكونوا أسرى مقابل آلاف الأسرى الفلسطينيين..
ألحقت المقاومة الفلسطينية ثاني أكبر هزيمة استراتيجية عسكرية بالجيش الاسرائيلي المصنف رقم أربعة بين جيوش العالم من ناحية التفوق التكنولوجي.. ومع مرور 86 يوما، اليوم الأحد آخر يوم في العام الدامي، لا تزال المقاومة توجه ضربات قاتلة، وتوقع بالجيش الصهيوني خسائر أكبر مما خسرت اسرائيل في أي حرب لها مع العرب!
هذه الحرب تسيل فيها الدماء مع الدموع، دماء أكثر من 22 ألف شهيد أكثر من نصفهم أطفال ونساء، واصابة 60 ألف فلسطيني من مختلف الأعمار، أضف إليهم المدفونين تحت ركام المباني المنسوفة..
مشاهد القتل اليومي تقبض النفس وتخنق الروح، ولانملك لهم غير الدموع، بينما هم ينزفون في كبرياء ويصمدون في عناد وطنى، يكلله الله بالتعويض وإقامة دولتهم الحلم الصعب المستعصي منذ عشرات السنين..
إن هذا العام الذي تراجعت فيه كورونا القاتلة يأبى أن يمر دون أن يترك لنا نسخة أخرى ندعو الله أن تكون شاحبة مثل سابقاتها، حر وحرائق وحروب وغلاء فاجر فاحش وأوبئة تتحور علينا.. ومع كل هذا يملك البعض جلدا سميكا وقلبا غليظا، فيرقص ويشرب ويلهو لأن عاما جديدا سيأتي.. ما الفارق؟
رقصتم وشربتم ابتهاجا بالعام الحالي التعس.. ما الفارق؟