عصابة نتنياهو.. شكرا
خديجة.. طفلة وصلت إلى مرفأ الحياة منذ سنوات أربع، تقف مع جدها عند بقال القرية، لتختار ما تشتهى نفسها البريئة، وتعلن عن رفضها لهذا المنتج وذاك أيضا، معللة -بلغة لا تحتمل التأتأة- أنها ترغب فى أى منتج ليس إسرائيليا، قالتها كما كتبتها، هى ترفض أى حلاوة أو شيبسى إسرائيلي.
خديجة لم تكن وحدها هى التى تقاوم منتجات طالما أغرت الأطفال بأغلفتها الجذابة وطعمها الأخاذ، فشقيقتها رودينا التى تكبرها بعامين تسير على نفس الخط، وكل أقرانهما من نفس السن وما يكبره يرفضون أى منتج إسرائيلي.. هكذا هى المقاطعة هذه المرة.
عدت إلى سنوات طفولتى التى لم يكن بها هذا التنوع فى «بضاعة» البقال، فلم أتذكر أننى كنت أعرف كلمة إسرائيلى.. كنت أعرف أن لنا عدوا، يسلب منا الأرض ويحاربنا، وقتل من شباب قريتنا عددا غير يسير، وكنت أسمع أن بيت فلان به شهيد أو مفقود فى الحرب.
تغيرت الدنيا، وبات واضحا أن الحرب هذه المرة على الهواء مباشرة، وأن مشاهد القتل ووأد الأطفال تحت الركام، ومناظر خروج الأطفال من تحت الأنقاض لم يعد سرا أو خافيا على خديجة ورودينا وغيرهما، هنا كانت الصورة والانطباع بأن قاتلا شريرا اسمه إسرائيل يفعل كل ذلك فى أولادنا.
على جانب آخر، سألت إحدى العاملات فى ستاربكس عن المقاطعة، فقالت بصوت حزين: إن الشركة بدأت الاستغناء عن عدد كبير من العاملين، وأن زملاءنا الذين أجبروا على ترك العمل يعانون من بطالة وظروف قاسية، وأن المبيعات تراجعت بأرقام مخيفة.
وإذا ما قادتك فكرة زيارة مطاعم البيتزا الشهيرة، وغيرها من الكافيهات والمطاعم المرتبطة بشكل أو بآخر مع الكيان الصهيونى دعما، وآخرها ما حدث مع «زارا» وجريمتها الكبرى ضد الإنسانية بتنفيذ عرض أزياء، وفى خلفيته صور لركام غزة وشهدائها الملفوفين بأكفانهم ستعرف أن الدنيا فعلا تغيرت.
لا شك أن ضمير الإنسانية لم يعد سجين سردية الكيان الصهيوني، وأن الإعلام الاجتماعى قهر وسائل الإعلام العالمية التى سيطر عليها الكيان الصهيونى لعقود طويلة، وأن الناس لم تعد هى نفس الناس، وأن عواصم أوروبية باتت أكثر وعيا بما يجرى فى الأرض المحتلة.
أعود إلى خديجة ورودينا وأقرانهما وكل من يكبرهما سنا.. تأثر أطفال مصر وغيرها من الدول بدرجة جعلت الطفل يقاوم طفولته، ورغبته فى الإقبال على منتجات مغرية، اعتادوا وتعودوا على التعاطى معها، كيف لطفل أن يكون صاحب قرار بهذه القسوة ضد طبيعته كطفل بريء؟
والأهم ليس اتخاذ قرار المقاطعة فى هذه السن، وإنما القضية تتعدى ذلك بكثير، وتصبح أكثر خطورة إذا ما تصورنا كيف سيكون حال هذا الجيل فى المستقبل.. لا شك أن الصور القادمة وبشكل حى من غزة لن تمحى من الذاكرة، وستصنع جيلا مختلفا، فتلك الصور ستبقى فى وجدان هذه الأجيال ولن يمحوها الزمن.
لا شك أن الطبقة العربية الحاكمة تعاملت مع الكارثة فى غزة وفق أجندات متباينة، غير أن واحدا منهم لم يفكر فيما هو قادم، والقادم لا شك دفقات حماسية قد تصل إلى ما هو أبعد من كل بناء سابق، حول فكرة السلام أو العيش أو التعايش الذى حاولت أنظمة عربية كثيرة بناءه فى سنوات مضت.
إننا أمام حقائق جديدة مفادها أن الصور القادمة من غزة أصدق أنباء من الكتب، وأن وجود الكيان الصهيونى بيننا ليس أمرا مقبولا، وأن قتاله واجب إنسانى قبل أن يكون دينيا، وأن المعنى المستهلك لفكرة السلام لم يعد مقبولًا، وأن الأجيال القادمة ستكون مع المقاومة بدءا بالمقاطعة مرورا بما هو أبعد ووصولا إلى القتال سيفا بسيف وعنقا بعنق.
هذا على مستوى أطفال نشأوا على صور القتل الممنهج، فما بالنا بشباب رأى بأم عينيه ما لم تقصه عليه حكوماته ولا مدارس بلاده، وبات غريبا ومشوها، وغير قادر على فهم ما يجرى من وقائع يندى لها جبين الإنسانية.. هذه الأجيال ترى عواصم العالم الحر تنتفض ضد الظلم، فماذا هو فاعل فى المستقبل؟!
إن ثلاثى عصابة الصهاينة قدموا للإنسانية وجبة دسمة من التطرف والقتل والتدمير والعنف ضد الأطفال والنساء والشيوخ، ضد الناس والأرض والشجر، حرقوا وقتلوا ودمروا تدميرا بشعا، قدموا كل أسباب البناء لأجيال لن تترك الأمور تسير فى مجراها الذى أراده حكامهم.
سنوات طويلة مضت وكاد النسيان يغلف القضية الأم، قضية أرض مقدسة وشعب يناضل، قضية الأقصى وقبلة المسلمين وكنيسة القيامة، قضية شعب يتم تهجيره منذ أكثر من خمسة وسبعين عاما، وهو صامد.. وحده يقاتل من أجل البقاء.. بقاء القضية على السطح.
نجح نتنياهو فى إعادة الوعي، وعى الأجيال العربية الجديدة بالقضية، وأصبحت حماس- التى كانت تسكن بقعة صغيرة من الأرض المحتلة- فى كل بيت عربي، رضى الحكام أم أبوا.. وانتقلت المقاومة من فكرة الشعار إلى أرض الواقع والقدرة والانتصار.
نجح نتنياهو فى فضح التاريخ الدموى للصهيونية العالمية، وكشف السر الدفين ووضع كل مناصريهم فى مأزق، وباتت أوروبا العمياء منذ عام ١٩٤٨ مبصرة، وتتحرك فى شوارع لندن وباريس.. فى شوارع أمريكا بكل مدنها، وفى شوارع النرويج وبلجيكا والنمسا وألمانيا.
شكرا لعصابة المجازر الصهيونية، فما فشلنا فيه على مدار تاريخنا نجحوا هم فيه، لقد تعرى نتنياهو ورفاقه فى القتل أمام العالم كله، وأصبحوا محاصرين هناك بين مطرقة القسام وسندان الغرب المستيقظ من سباته، لقد قدموا للقضية الفلسطينية ما لم يقدمه وطن عربي!