..ونحن الموتى على قيد الحياة
وقف بثبات كالجبل الراسخ، وهو يمسك بميكروفون البث المباشر يعدد أفراد أسرته ويحدد الأسماء بدءا من أبيه وأمه إلى أشقائه وخالاته وأعمامه وأطفال قذفت بهم الغارة إلى أسطح المنازل المجاورة، أشلاء الضحايا تناثرت، وبعضهم دفن بعمق ستة أمتار تحت الأرض.
لم يكن مؤمن المشرافى مراسل الجزيرة في هذا البث الأكثر واقعية في تاريخ الإعلام الدولي مراسلا عاديا، بل كان مقاتلا صلبا لم تذرف عيناه الدموع، كان صوته متهدجا يحمل كل مضامين التحدي المختلط بهول المأساة، فقد مؤمن واحدا وعشرين فردا من أسرته وهو الآن على الهواء يقاتل بالميكروفون.
فى الخلفية تتزاحم النفوس الباقية على قيد الحياة وهم ينتظرون الدور القادم، وأصوات تتصارع بين أطفال وشيوخ وسيدات وشباب، يتنقلون بين البنايات التي جاءها الدور وتحتفظ تحت ركامها بأحبة قضوا، وآخرين في انتظار خروجهم من تحت الأنقاض.
فى عواصم العالم الذي يقولون عليه حر، تتحرك المظاهرات وهي ترفع أعلام فلسطين المحتلة وتتعالى أصواتهم ،فلسطين حرة، أو الحرية لفلسطين، وفى عواصمنا العربية لا يزال الناس يرزحون تحت نير محتل وطني أقسى من ذلك المحتل الذي يعمل كل فنون القتل في فلسطين.
أن تمنع حتى من صرخة تطلقها في الهواء تضامنا مع الضحية، وأن تحرم حتى من التعبير عن شحنة غضب تسكن الضلوع، وأن تحبس أنفاسك أو تعد أنفاسك تنصتا على هاتفك، وعلى بيتك، وعلى خواطرك، وأن تعيش كالبهيم لتأكل خبزة يلقيها لك المحتل الوطني.. أنت فعلا محتل وأنت فعلا ميت على قيد الحياة.
كان وائل الدحدوح مراسل الجزيرة الذي حمل طفلته الشهيدة، وتعلو جبهته أتربة البناية التي أسقطها العدو على أسرته قد قال من أعماقه "معلش"، تلك الحروف الأربعة كانت أعمق من كل الأناشيد الجنائزية التي احتفظ بها التاريخ فوق صفحاته.
وائل الدحدوح لا يزال قابضا على سترته التي لم تنج أطفاله وزوجته وأبناءه، ويخرج علينا ليل نهار دون أن يسقط فى بئر اليأس والعزلة ورهبة الفراق ولوعة البعد، لا يزال وائل في ناحية ينقل لنا تفاصيل مجازر هو أكثر من يعرف عمق تأثيرها، وعلى الطرف الآخر يشاركه مؤمن المشرافى نفس تفاصيل القصة الحزينة.
المحتل الوطني
وهناك وفي قلب عواصم العرب ليال ساهرة تقام ومهرجانات يرقص على أنغامها رجال ببدلات رقص مغرية ومثيرة وكاشفة، ولا بأس أن يخرج أحدهم علينا ليندد ويولول ويحكي لنا أساطير اتصالاته وملاحم تحذيراته، وبطولات تهديداته وقليل من حكمته النادرة التي لا ينطق بها غيره.
وعلى خلفية صورة المنقذين يحاول أبطال الدفاع المدنى إخراج شاب من تحت الركام، وهم يحذرونه بألا يتحرك، وصوت الشاب قادم من تحت البيت المقصوف.. والله ما بخاف يا ناس من الموت.. درس قادم من هؤلاء الذين نحكي عن عجزهم ونروي تفاصيل معاناتهم.. إننا نحن العاجزون في بيوت من قش وإننا نحن من يعانون سمنة البهائم.
أنتظر وائل الدحدوح ومؤمن المشرافى كل ليلة وكل صباح، وأتابع تلك الصلابة والقوة والإرادة، لا أنصت كثيرا إلى ما يقولون فكل الحكايات متشابهة، موت يتابعه موت، وقصف يتلوه قصف، وأطفال يلحقون بأطفال، ونساء لا يجدن مروءة عربية قرأنا عنها في القصص الخيالية.. فقط أتابع قسمات وجهيهما وأبكي.
ولأني محاصر أكثر منهم، ولأني كيان محتل لا يملك حتى من يقصفه قصفة واحدة فيريحه من حياة الأذلاء، أبكي عوضا عنهما.. أبكي بدلا منهما، فاليد مغلولة، والقيد في بلاد العرب أقسى وأمر، والسجن في بلاد العرب سور حول الوطن، وعسس يسكنون الليل والنهار، وجيوش على شعوبها تتسيد وتمارس القهر الوطني.
أبكي عوضا عن هؤلاء الذين لا يملكون رفاهية البكاء.. أبكي بدلا منهم، فبعضهم يقاتل، وبعضهم يناضل، وبعضهم مشغول بالغارة القادمة، وبعضهم منهمك في دفن بعضهم، وبعضهم منهمك في لملمة بقايا صور من ذكريات كادت تضيع تحت القصف، وبعضهم يسند بعضهم.. لا وقت لديهم للبكاء ولا وقت لدينا إلا للبكاء.
أبكي بكاء المحبوسين في ذواتهم، بكاء العاجزين في بيوتهم، بكاء المقهورين في أوطانهم.. أبكي وقد وصلت إلى محطة اليقين الأولى والأخيرة..لا تحرير لفلسطين من محتل صهيوني قبل تحرير الوطن الأكبر من المحتل الوطني!