الصحافة والصحفيون، بين الأمس واليوم
كانت الصحافة هوايةً، وموهبةً، ودراسةً، وخبرةً، والموهبةُ يولد الإنسان بها، ويستطيع تطويرها، وصقلها، ثم أصبحت حرفةً، وصنعةً، من السهل إجادتها، ببعض الجهد، والجد.. يمكن التفوق فيها، حتى لو لم يكن الشخصُ موهوبا.
الصحفي زمان كان يحتاج إلى تثقيف نفسه، والاهتمام بتطوير إمكانياته، واكتساب معلومات وقدرات كل يوم، وكان لابد له من امتلاك ناصية اللغة، وحفظ الشعر والنثر الأدبي، وربما كتابة الشعر، وإضافة مفردات جديدة، ومصطلحات إلى قاموسه بشكل شبه يومي.
ثم صار الأمر يعتمد على إجادة استخدام الكمبيوتر، والإنترنت أكثر من إجادة لغة بلاده، ولغات أخرى.
ولكن، لنعترف بأن الصحافة المكتوبة كانت أكثر يسرا في عملية المتابعة.. كان أحدنا يسافر، مثلا، إلى القرية، فيكاد ينقطع عن العالم أياما، ثم يعود، فلا يستغرق الأمر سوى بضع ساعات حتى يستوعب، ويهضم الأحداث التي غابت عنه، أو غاب عنها.
ربما كنا نكتفي بسماع الراديو، لمعرفة الأخبارِ والتطورات على الساحة العالمية، والمحلية. لكن الأمر يزداد صعوبة كل يوم، بل كل ساعة، فلا نكف عن اللهاث وراء الأخبار، ولا نتوقف عن مطاردة المعلومة.
نصحو كل صباح فنكتشف أن هناك أمورا جساما حدثت أثناء نومنا، فلو نملك ألا ننام لربما ارتحنا من عناء تأنيب الضمير بسبب المعلومات التي افتقدناها، وهربت منا في ساعات السبات.
صحافة السوشيال ميديا
وجاءت السوشيال ميديا لتقلب كل شيء رأسا على عقب، فصار المهندس، والعامل، والممرض، والطبيب، والحلاق، والسائق ينافس الصحفي في معرفة المعلومة، بل قد يكون أحد هؤلاء أكثر حرفية من الصحفي والكاتب في تمكنه من تحليل المعلومات..
وقد يكون موهوبًا في حفظ الأرقام والأنباء، والقدرة على الاستنتاج، ربما دون أن يدري، فيتفوق على الصحفيِّ في قراءة الأحداث، ويستطيع بسهولة أن يعرض رؤية مستقبلية لقضية أو أزمة ما، بصورة أكثر دقة من الصحفي.
أيضا، أسهمت الصحافة الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي في أن يختلط الحابل بالنابل، فلم تعد هناك، تقريبا، قواعد في التحرير الصحفي، فيكفي أن يذكر المحرر معلومة في مستهل الخبر، ولا يستكمل باقي العناصر.
وبهذا توارت عناصر تحرير الخبر من ضرورة الإجابة على الأسئلة الستة؛ مَنْ.. أيْن.. متى.. ماذا.. كيْف.. لماذا؟
صارت السرعة هي الفيصل والمعيار الأساسي لنجاح الصحفي.. وتوارت الرصانة، وجودة الصياغة، وحسن انتقاء الكلمات، وهو ما كان يمثل معايير التميز في أزمان سابقة.
قديما، كان للصحفي وضعه المميز في المجتمع، وكانت المهنة من أرقى المهن، والصحفي من صناع القرار، وقادة الرأي، والآن لا هذا ولا ذاك.. بل ربما بات المشتغل بهذه المهنة من أتعس المواطنين، ويحتل مرتبة دنيا في معدلات الدخل، وبلا امتيازات تقريبا.
ما زلت أذكر مقولة أساتذتنا بأن الصحفي أكثر أهمية من الوزير.. فأتحسر على ما آل إليه حالنا اليوم. كان خبر واحد، وفقرة من مقال، أو تحقيق أو حوار تقلب الدنيا رأسا على عقب، وتطيح برقاب مسئولين كبار، وتفجر تحقيقات، وتتسبب في قرارات عليا، شديدة الأهمية، والخطورة.
أهمية الصحافة
ولا ننكر أن الصحف المكتوبة أمست عبئا على من يتولى تمويلها، واضطر رأس المال الخاص إلى التخلص من الجرائد، واستعصم الجميع بالمواقع الإلكترونية، التي صار بعضها ينافس فيس بوك وإكس "تويتر سابقا"، وانستجرام، في نشر الأخبار، دون التأكد من صحتها، أو التيقن من دقتها.
باختصار، الصحافة بدأت الانزلاق من قمة جبل الجليد منذ فترة طويلة، وتزداد سرعة هبوطها شيئا فشيئا، وستصل إلى السفح قريبا.
كل ما سلف، لا ينفي أهمية الصحافة، من خلال الصورة، والفضائيات، ووسائل التكنولوجيا، في تحويل الكرة الأرضية إلى بلورة متاحة لأي فرد في أي مكان أن يعرف ما يدور في أي بقعة منها في التو واللحظة، فصار العالم الكبير صغيرا.
كما أفادت في فضح الانتهاكات الوحشية، والمجازر التي ترتكب من قبل قوى غاشمة ضد أبرياء عُزَّل، وهو ما لم يكن متاحا من قبل، وكانت تلك الممارسات الدموية تجري في معزل عن العيون والأذان، وكان من اليسير إنكار حدوثها، ونفي وقوعها، والإفلات من مغبة التورط فيها.
علينا الآن، كشعوب مستهدفة من الوحوش الكبرى أن نستثمر التطور الرهيب في أدوات الإعلام، ووسائل التواصل في الدفاع عن قضايانا، والمطالبة بحقوقنا المشروعة، وممارسة استقلالنا بما يعود بالنفع على أوطاننا، والأمان لشعوبنا التي عانت أحقابا طويلة من نير الاستعمار، ومورست ضدها أبشع ألوان المؤامرات، وأحقرها.