كارثة أنسنة القضية الفلسطينية
في البدء نشأت القضية الفلسطينية كقضية وطنية وبشكل طبيعى صارت عربية، واعتبر العرب أن المواجهة مع الصهيونية هى صراع عربى ــ إسرائيلى. وبعد عقود، العجز العربى والهيمنة الأمريكية أديا إلى تغير فى المفاهيم والمصطلحات، فصار النزاع إسرائيلى ــ فلسطينى.
ومن العرب أراد أن يجعل من القضية الفلسطينية صراعا دينيا وقطع شوطا فيما أراده على الرغم من أنه بذلك كان يلعب على أرض الصهاينة الذين قدموا أسانيد دينية لدعاواهم السياسية.
فالقضية نفسها قضية مأساوية، محكومة بفجائعيتها. إنها ليست كمأساة المسرح الإغريقي تأتي نتيجة قدرٍ لا عقلاني، ولا مثل المأساة الشيكسبيرية تولد من اضطراب في سلوك الإنسان. بل هي تُسقِط إنسانها وتطوّح به وتنفيه، خارج وطنه ولهذا يصر ساسة إسرائيل على تحويل القضية الفلسطينية برمتها من قضية سياسية إلى قضية إنسانية.
ولهذا فهم يوجهون صواريخ طائراتهم المقاتلة لضرب أهداف مدنية في قطاع غزة لا بل وإمعانا في إضفاء البعد الإنساني على القضية ومجمل الصراع في المنطقة يتعمدون إعاقة عمليات الإسعاف وإخلاء الجرحى، إلى الحد الذي وجه فيه الصليب الأحمر الدولي اتهاما مباشرا لإسرائيل بتعمد اعاقة عمليات اخلاء وعلاج الجرحى، كما يتعمدون قتل المدنيين، وبإصرار مكشوف.
أنسنة الصراع
وهكذا تغامر اسرائيل بتعريض نفسها للاتهامات الدولية لها بمخالفة القانون الدولي وبتعمدها قتل المدنيين ومنع إخلاء الجرحى إلى المستشفيات، وهي تعلم أن ذلك يضعها في دائرة ضيقة يصعب فيها حتى على أقرب حماتها وأعوانها السكوت عن ذلك، أو مواصلة إعلان التعاطف معها.
وواقع الحال يقول إن إسرائيل تريد أن تجعل الهدف الرئيسي لعدوانها على غزة إلغاء الصبغة السياسية على القضية الفلسطينية، وتحويلها من قضية صراع سياسي بين دولة محتلة وشعب رازح تحت الاحتلال يطالب برحيل المحتل، ويقاوم وجوده وسعى لاسترداد حقوقه الوطنية وفي مقدمتها حقه في دولة مستقلة إلى قضية إنسانية، تخص أناسا يحتاجون إلى الدعم الإنساني "تبرعات مالية وعينية" لتمكينهم من مواصلة الحياة في مواجهة غضبة دولة يمارسون عمليات إرهابية ضدها.
ولذا يجب طرح.. قضية فلسطين كقضية سياسية ولا بد من حلها على هذه الأسس السياسية التي تعني قيام دولة فلسطينية مستقلة على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس، واللاجئون الفلسطينيون يجب أن يتمتعوا بحق العودة والتعويض وفقا لإرادة المجتمع الدولي وقرارات الشرعية الدولية، والتمتع بحقوقهم الثابتة والمقررة من قبل سائر الشرائع الدولية والسماوية، إلا إذا تخاذل الآخرون وساروا في ركاب مؤامراتها وقبلوا بتفيذ ما تريد..
ومع التقدير الكامل لحملات التعاطف والتضامن الدولية التي ينظمها مثقفون ومفكرون وسياسيون ومنظمات دولية تظل هذه الحملات تصب بقصد أو دون قصد، في قنوات أنسنة الصراع، وتظل عاجزة عن تقديم الحل السياسي أو فرضه، مثل هذه الحملات يجب أن ننظر إليها ليس أكثر من وسيلة إضافية لإظهار عدالة القضية.
فالضجة العالية المبالغ فيها التي ترافق قوافل التضامن وعمليات التبادل النادرة وأمثالها تساهم بشكل أو بآخر في إظهار الصراع القومي والقضية الوطنية، وهما قضيتان سياستان بامتياز، كمجرد مسألتين إنسانيتين، ولن تنفع قوافل التضامن مع غزة في رفع الحصار أو إبعاد الاعتداءات وإشعال المحارق عنها..
كما أن بضعة أطنان من الغذاء والدواء لن تغير الأوضاع المأساوية وتركيز الحلول في آخر المطاف في حل إنساني، ليشرعن بعد ذلك اغتصاب كل فلسطين وربما أكثر. إن أنسنة النضال الفلسطيني تعني استجداء فلسطين وتضعف الحقوق القومية المشروعة.