الكلمة نور.. وبعض الكلمات قبور!
الكلمة رسول إلى القلوب.. قد تفتح طريق للخير أو تقود لحرق الأوطان واغتيال الأبرياء.. الكلمة تبني الوعي أو تهدم بنيان الأمة.. ومن أسف أن الوعي الكاذب هو آفة عصرنا بامتياز؛ ذلك أن السوشيال ميديا تنشر سيلا متدفقا من المعلومات والأفكار دون تمحيص ولا توثيق ولا انضباط ولا حسيب ولا رقيب.. صارت إعلاما مفتوحا خلق سيولة ذهنية تشعل الاحتقان وتكرس للغضب والكراهية والتنابذ والتناحر والانقسام.
سهولة تداول المعلومات في الفضاء الإلكتروني أسهم بلا شك في إغراق المجتمع في بحار الوهم والتشوش والإحباط والتخبط، وجعله لقمة سائغة في أفواه أعدائه، وبيئة خصبة للشائعات والوهن والانقسام والاستقطاب..
وهي الآفات التي طغت علي دولنا في أعقاب أحداث يناير 2011 بما فعله بعض الساسة ومن يسمون أنفسهم نشطاء ونفر من حملة الأقلام والإعلاميين الذين أسهموا في حرق الوطن وتعريضه للخطر لولا عناية الله الذي جمع قلوب الناس على ثورة 30 يونيو التي صححت المسار واستعادت الدولة من براثن الفوضى واليأس والحرب الأهلية التي كان يدبر لها أعداؤنا هنا وخارج هنا ومن ورائهم جماعة الإخوان الإرهابية.
الكل صار إعلاميا على مواقع التواصل الاجتماعي، ونسينا أن الإعلامي الحق ينبغي له أن ينشر صورة مشرقة وصحيحة للدين الذي يعتنقه؛ صورة خالية من الانحرافات العقدية والعملية والأخلاقية، وأن يكون قدوة لغيره في نشر الخيرات حتى لا يقع تحت طائلة قول الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النور:19)..
ولا يخفى أن هذا من قبيل التأديب لمن سمع شيئا من الكلام السيئ، فقام بذهنه منه شيء، وتكلم به، واختار ظهور الكلام القبيح عن المؤمنين، وكان أولى به ألا يكثر منه أويشيعه ويذيعه بين الناس.
أثر الكلمة
كثيرون لا يعبأون بأثر الكلمة وخطورتها في صلاح العلاقات أو إفسادها، في بناء المجتمعات أوهدمها، في إسعادها أو تعاستها.. ولا عجب، والحال هكذا، أن يهتم القرآن بأثر الكلمة الطيبة في النفوس حتى قال في شأنها: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ" ( سورة إبراهيم: 24)..
وعلى النقيض من ذلك قال الله تعالى: "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ"( إبراهيم: 26).. الكلمة الخبيثة تنبعث من خبث النفس، وضلال الفكر، وتكون في باعثها آثمة، وفي غايتها آثمة فهي على عكس الكلمة الطيبة، لأنها لا تنبعث من إخلاص لله ولرسوله، ولا تكون طيبة في واقعها، ولا في نتائجها، وما يترتب عليها، وأوضحها الكذب، وما يتفرع عنه من الشائعات والأوهام والغيبة والنميمة وما شابه.
وقد نبهنا النبي الكريم للمقام الحسن لأصحاب الكلمة الخيرة، والمآل التعس لأصحاب الكلمة الخبيثة بقوله: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا، يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم".
ومن روائع الأدب في وصف دور الكلمة وأثرها ما قاله الراحل عبدالرحمن الشرقاوي في مسرحيته الشعرية «الحسين ثائرًا. شهيدًا».. تساءل: "أَتَعرِفُ معنى الكلمة؟ ثم يجيب: مفتاح الجنة فى كلمة..دخول النارِ على كلمة.. وقضاءُ اللهِ هو كَلِمة.. الكَلِمةُ نور.. وبعض الكلمات قبور.
الكلمة رسالة أخلاقية؛ والقلم أمانة، يُخلّد ما يسطره المرء، ومن ثم خصّه الله بالقسم "وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ".. به اقترن العلم واتصلت الحكمة وعلت الرسالة "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"..
والكلمة أيًا ما تكن صورتها مسئولية ثقيلة على صاحبها، يستوي في ذلك الصحفيون والكتاب وأصحاب الرأي والدعاة والمفكرون والنخبة والمعارضون، وكل من يملك تأثيرًا على الجماهير حتى ولو على مواقع التواصل الاجتماعي التي استحوذت على عقول الناس واهتماماتهم.. وربما سحبت البساط من تحت الإعلام التقليدي؛ صحفه وفضائياته.
وليس القلم وظيفة أو أكل عيش بل رسالة سامية تبنى الوعي الحقيقي وتحارب الجهل وتحمي الهوية وتحرس العقيدة والأخلاق.. فإذا كانت قدمك تترك أثرًا على الأرض فإن كلمتك تترك أثرًا في القلب والعقل والوجدان.. فهل ننتبه لخطورة ما نكتبه أو ننقله أو نصدقه حتى لا نكون معاول هدم للمجتمعات والأوطان؟!
وللحديث بقية..