من ذاكرة قضايا حظر النشر
وكنا نتحايل على قرارات حظر النشر التي تصدر عن النائب العام، أو جهات التحقيق في قضية ما، بطرق كثيرة من بينها أن قرارات حظر النشر كانت تصدر برقم القضية دون توصيف لها أو تعريف بها، ولم يكن من القائم بالاتصال صحفيا كان أو إعلاميا أن يكسر هذا الحظر، فإذا ما قدم للتحقيق معه فإن مبرره أنه لا يعرف رقم القضية.
وكانت قرارات حظر النشر أيام مبارك تتعدد حسب أهمية شخوص المتهمين أو حساسية القضية أو تورط مسئولين رسميين فيها، وكنا نقاوم ذلك بالدفاع عن حق المواطن في الحصول على المعلومات من مصادرها ومنا من كسر الحظر عمدا وحوكم بسبب ذلك.
صولات وجولات بين الصحفيين والجهات الرسمية التي توسعت في فترة ما في إصدار قرارات حظر النشر، ولم يكن ممكنا أبدا أن يحظر النشر بتعليمات أو دون صدور قرار من النائب العام أو قاضي التحقيق مع تسبيب ذلك في كثير من الأحايين.
وكانت الأحزاب السياسية وصحفها وكثير من مؤسسات المجتمع المدنى تتزعم الدفاع عن حق الناس في الحصول على المعلومات ومتابعة مجريات التحقيق في هذه القضايا وفي معظم الأحيان يكون لدى جهة التحقيق بعض المبررات التي لم يكن يقنع بها الرأي العام.
هذا السجال بين الراغبين في فتح كل الملفات وبين فرق العتمة، ظل لسنوات يتأرجح؛ فتارة تحقق الصحافة مكسبا وتارة يرتد إليها السهم حبسا أو إغلاقا أو منعا من النشر بقرارات حظر النشر التي تسببت في مزيد من الغليان، ومن ثم كانت واحدة من أسباب ثورة يناير العظيمة.
حرية تداول المعلومات
كانت وقائع هذه المعارك النضالية من أجل حق الناس في المعلومات تجري وفق زمن له مواصفات خاصة من حيث عدد الصحف والقنوات والمواقع الإلكترونية، وكان قرار حظر النشر ذا أثر كبير على حرية تداول المعلومات، فإن منعت وسائل الإعلام من تغطية الأحداث باتت تلك الأحداث في ظلام لا يمكن الوصول إلى تفاصيلها.
الآن تغيرت الأوضاع وأصبحت وسائل الإعلام الاجتماعية قريبة من كل حدث مهما كانت مسافات أو مساحات حدوثه، فلم يعد مراسل الصحيفة الذى يقيم في مكان بعينه قادرا على الوصول إلى ما تصل إليه عدسات الإعلام الاجتماعي ومن هنا كان نشوء أقسام للإعلام الاجتماعي داخل المؤسسات الصحفية والإعلامية علامة من علامات التطور والتعامل مع واقع جديد.
أتذكر واحدة من الوقائع الدالة على هذا التغيير عندما وصلنا فيديو لواقعة عنف بعينها بطلها موظف رسمي ولم يكن منا إلا أن تواصلنا مع مصادرنا للتأكد من الواقعة وأسبابها وهل جرى فيها تحقيق أما لا.. هنا طلب المسئول برهة من الوقت تمتد ليوم أو يومين.
وقبيل ساعات كانت مواقع التواصل الاجتماعى تعرض فيديو الفضيحة بكامل تفاصيله ولم يكن من الجهة الرسمية إلا أن تضع نفسها في موقع رد الفعل وتحاول الرد بعد أن غرقت مواقع التواصل بالواقعة الفضيحة، وزاد الطين بلة أن رد المسئولين لم يكن مقنعا أو مرضيا وامتدت آثار الواقعة لما هو أبعد من ترهل المسئولين عنها.
الزمن تغير ومعه تغيرت الأدوات ولم يعد تحت السماء سر لا يمكن الوصول إلى تفاصيل تفاصيله، وقد أصبح العالم غرفة واحدة بعد أن كان قرية صغيرة أيام الفضائيات.. لم يعد في الإمكان التغطية عن حدث أو التعامل مع الجماهير بروح الوصاية، ولم يعد منطقيا أن تتحكم أنت أو غيرك في سيل المعلومات التي يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي الوصول إليها ونشرها والتعقيب عليها وتحليلها.
منع المعلومات عن الناس أصبح كمن يحاول منع انتشار الهواء في الجو أو التحكم في الأكسجين الذي يتنفسه البشر، ومحاولة التعاطي وفق الوصاية أو التعامل باستعلاء مع وقائع الحياة بكل تفاصيلها أمر مستحيل، ويخطئ من يتصور أن منع النشر في وسائل الإعلام الرسمية أو المحترفة يحقق الهدف أو يصل بصاحب القرار إلى الغاية.
الحل كما أراه ويراه غيري من واقع تجارب حياتية لسنوات وخبرات تناقلتها الأجيال لعقود، أن مواجهة المعلومات يكون بمعلومات أكثر دقة وألا تغلق بابا تأتيك منه الرياح.. عليك بفتح كل الأبواب ومواجهة هذه الرياح بقلب جريء ورؤية منفتحة.
حماية الأوطان لم تعد في إخفاء المعلومات عن الجماهير، وإنما في مشاركة الناس همومهم ومشاكلهم حتى يتحمل المواطن مسئولياته إلا فيما ندر أو فيما يرتبط ارتباطا وثيقا بقضايا الأمن القومي وهي قضايا معروفة وليست مجهولة لأحد.