رئيس التحرير
عصام كامل

اللحظات الأخيرة في حياة كذاب!

لسنوات طويلة أحاول تذكر اسم كاتب كانت له درة من السطور عن الكذب، وقد خانتنى الذاكرة ولم تف بما أطلب حتى اليوم، يقول صاحب المقال «إياك والكذاب فإنه يقرب إليك البعيد ويبعد عنك القريب»،عبارة بديعة تختزل مآل الكذب ونهايته وآثاره المروعة.


الكذاب يأخذك من واقعك إلى خيال بعيد عن الحق والحقيقة، وما كنت تستطيع فعله فى عام يوهمك أنه منته فى يوم، فيمر اليوم ويمضى العام وأنت فى مكانك لم تبرحه، وتظل هكذا تعيش فى عالم غير العالم الذى يجب أن تواجهه حتى تفيق على كارثة.


في التاريخ البشري كذابون كثر، ولم يثبت أن واحدا منهم خلد بغير عار الكذب، وخلاصة المثل الشعبى إن الكذب «مالوش رجلين» أى أن أمره ينكشف، ويفتضح أمر صاحبه، ويصير أضحوكة الناس في عهده، وحتى بعد زوال عهده، يصبح واحدا من المذمومين إلى الأبد، تضرب به الأمثال في الخيانة، خيانة الصدق.


دفعتنى شهوة القراءة إلى إعادة قراءة كتاب «الصديق أبو بكر» لصاحبه الكاتب الكبير محمد حسين هيكل، وقد توقفت طويلا عند قصص الكذابين بعد وفاة الرسول الأكرم، سجاح، ومسيلمة على الأخص، ونال مني قصة ذلك الذى ظل حتى لحظات الحرب الرهيبة وهو يكذب.. إنه طليحة بن خويلد.


لم يكن طليحة قد تعمق فى الإسلام فقد ذهب مع قومه في السنة التاسعة من الهجرة إلى رسول الإسلام ليعلنوا إسلامهم، فماذا قالوا عند وصولهم إلى الرسول الكريم «أتيناك نتدرع الليل البهيم فى سنة شهباء ولم تبعث إلينا بعثا، فنزلت الأية الكريمة «يمنون عليك أن أسلموا» الحجرات 17.

سقوط أسطورة الكذب


وبعد أن عاد طليحة إلى دياره بقليل قرر أن يكون نبيا يوحى إليه فادعى النبوة ولم تمض إلا فترة ليست كبيرة حتى بلغ القوم أمر رحيل سيدنا رسول الله، فكانت فرصته في التوسع بدعوته، وقد انضم إليه عدد ليس بقليل، وتولى أبو بكر الصديق أمر الخلافة، فأخرج خالد بن الوليد للقضاء على الردة.


ما يهمنى هنا هو الكذب، جمع طليحة أتباعه، وجهز جيشا كبيرا لملاقاة خالد بن الوليد داهية الحروب وأقام على مقربة من جيشه في بيت من الشعر، ومعه زوجته النوار، وهو يخرج بين الحين والحين يقرأ على أتباعه من الكلام المسجوع ما يوحيه إليهم بأنه من السماء.


تبدو الساعات الأخيرة في عمر نبوءة الكذاب مثيرة ومدهشة وعجيبة، فالرجل يحظى بمقاتل عنيد على رأس جيشه هو عيينة بن حصن، وقد عرف عنه إقدامه وشجاعته، ومعه من الرجال من أرادوا افتداء نبيهم بالدم قبل المال، فخاضوا حربا شرسة وطليحة فى بيته ينتظر الوحى كما أوحى إلى أتباعه!


تشتد المعركة قتالا وكرا وفرا وطليحة ملتف بكساء له، لا يزال يتنبأ الناس، أما وزير دفاعه عيينة بن حصن فقد وجد أن جيش المسلمين يتقدم ويحرز نصرا عليهم، فلم يكن منه إلا أن عاد بجواده إلى بيت الشعر يسأل نبيه الكذاب: هل أتاك الوحى.. يجيب طليحة: لا والله.


يعود وزير الدفاع إلى مقدمة القتال ليقاتل، فيرى أن الهزيمة لاحقة بهم لا محالة، فيعود إلى طليحة: هل أتاك جبريل؟ فكان رد طليحة: لا.. فقال عيينة: إلى متى؟ والله لقد بلغ منا، وعاد عيينة إلى المعركة فرأى خيل خالد تكاد تحيط به وبأصحابه فرجع إلى طليحة.


وقال له: هل جاءك جبريل بعد؟ قال نعم، قال: فماذا قال لك؟ قال طليحة: إنه قال لى: إن لك رحا كرحاه وحديثا لا تنساه.. هنا لم يتمالك وزير دفاعه نفسه من الغضب، حين سمع هذا العته فصاح فى وجهه: قد علم الله أن سيكون حديثا لا تنساه، ثم نادى فى الناس: انصرفوا يا بنى فزارة فإنه كذاب.


عند هذا الحد تنتهي أسطورة الكذب التى ادعاها طليحة، والمدهش أنه حتى اللحظات الأخيرة ظل يكذب فعندما جهز جواده وجهز لزوجته بعيرها، وهو يمتطيه سأله الناس ماذا نفعل؟ قال: من أراد أن ينجو بنفسه يفعل مثلما افعل.. هرب طليحة وسقطت قلعة الكذب التى ابتناها.

 


مهما كانت براعتك وقدرتك على غزل خيوط قصص الإفك ونجاحات الوهم وإنجازات الخداع، فإن الواقع كفيل وحده بأن يسقط الكذاب، وتسقط معه أسطورته، ويظل سطرا فى تاريخ البشر الذين يتندرون بروايات صاغها أهل الكذب لسنوات، ثم سقطوا جميعا بعد أن أحاط بهم عار لا يمحوه الزمن.

الجريدة الرسمية