أنا وعتريس وثروت أباظة
بعد ساعتين من إغفاءة أكثر من عميقة استيقظت على أفكار ممزقة ومتقطعة دون رابط يربطها، مثل تلك الأفكار التى كانت تتقاطع على لسان يونس شلبى فى مدرسة المشاغبين، عبثا حاولت استدعاء سلطان النوم، غير أنه غادر المكان والزمان وتركنى فريسة لصور مبعثرة على ذاكرة ضبابية غير واضحة.
أيقظت بقايا جسد كان متعبا قبل هجمة لم أكن أنتظرها، وانطلقت إلى مكتبى أقلب صفحات فى أجندتى القديمة، وقد استوقفتنى صفحة كتبت فيها انطباعاتى عن لقاء جرى بينى وبين الأديب والروائى الكبير ثروت أباظة عندما سألته عن سر كراهيته للرئيس عبد الناصر.
وقد دونت بعض ما قال.. وفى أى شيء صدق.. هكذا أحالنى الأديب الكبير على عدة مقالات كتبها بمجلة الإذاعة بعد وفاة عبد الناصر، وقد نال فيها من الرئيس عبد الناصر معددا ما يتصور بأنها أكاذيب الزعيم.. تلك المقالات التى كانت سببا فى إقالة الرئيس السادات له من المجلة!
وقال عن رائعته شيء من الخوف.. كانت قصة رمزية استطاع عبد الرحمن الأبنودى أن يجسد فيها من خلال الحوار الذى قدمه للفيلم السينمائى شخصية الديكتاتور، وقد رآها البعض تجسيدا لشخصية ناصر، وهو ما دعا عبد الناصر نفسه لمشاهدتها قبل العرض مرتين، ثم قال: «لا يمكن أن أكون أنا عتريس».
رائعة شيء من الخوف
على صفحة الأجندة التى يعود تاريخها إلى عام 1997م سجلت نقاطا عن عتريس وزواجه من فؤادة، والرمز الذى رآه البعض متطابقا مع شخصية الزعيم عبد الناصر.. كيف صور ثروت أباظة شخصية عتريس وتحوله من طفولة بريئة إلى ديكتاتور متجبر يعيش على فرض الإتاوة والقتل والخطف والحرق والسيطرة الكاملة على كفر الدهاشنة.
بجريمة قتل مروعة يبدأ الديكتاتور سيطرته على الدهاشنة مع مضاعفة الإتاوة أو الضريبة على الكفر كله، فقرائه بأغنيائه، ليبدأ سلسلة من الصراع.. صراع القوة والجبروت، وإحاطة نفسه برجال بلا قلوب.. رجال كل همهم جمع المال الحرام ونهب ممتلكات الغير وإثارة الرعب فى قلوب شعب الدهاشنة.
والدهاشنة مجتمع إنسانى يجمع أطيافا من البشر تتنوع ملامحهم وقدراتهم وملكاتهم، فمنهم المستسلم ومنهم الواعى ومنهم الحالم ومنهم المتمرد على استحياء.. فيهم شرفاء وفيهم منبطحون وفيهم نعيمة رمز البغاء، أما مجتمع عتريس المتجبر ففيهم العصفورى رمز الإدارة المتجبرة وفيهم عبد العاطى الرجل الثانى فى عالم القتل والحرق والسيطرة.
وفيهم رشدي الذى يتمرد راغبا فى أن يصبح «عتريس» فيصاب بالجنون فى توقيت ينشغل فيه عتريس بالزواج عنوة من فؤادة.. لقد أراد الديكتاتور أن يسيطر أيضًا على فؤادة (رمز مصر كما رآها البعض).. فؤادة تعلن العصيان ورشدي يصاب بالجنون والعصفورى يمارس احتجاجا ضمنيا ضد عتريس الذى انشغل عن نهب الناس وتخويفهم بالسيطرة على فؤادة.
هنا تبدأ دولة عتريس فى التفكك مع ظهور ثورى للشيخ إبراهيم الذى يعترض على بقاء فؤادة تحت سيطرة عتريس وداخل داره دون زواج شرعى.. ينجح الأبنودى فى بناء حوار ممتع وعميق بين الديكتاتور وفؤادة، وترتفع حدة المد الثورى لتبلغ مداها مع قتل ابن الشيخ إبراهيم.
يخرج شعب الدهاشنة بمشاعل من نار فى ليل حالك يحملون جثمان الشهيد إلى قصر عتريس.. وتتحرر فؤادة من دار عتريس وتنضم إلى الشعب الثائر وفى لحظات يدور حوار ساخن للغاية بين الديكتاتور ورجاله، فالعصفورى يرى أن الدهاشنة لم تعد وطنا يسع الجميع، فإما نحن وإما هم والحل فى الهروب.. عبد العاطى يعترض على عتريس، ويخرج الجميع فى مشهد هروب تحت النار.
وتتجلى عبقرية حسين كمال فى مشهد النهاية.. مشاعل النار ممتدة ومتمددة وقذائف تسقط على مخدع الديكتاتور.. العصفورى يد عتريس فى البطش تشارك فى اللحظات الأخيرة فى حصار الرجل القوى.. يغلق الباب على الديكتاتور لينهار عتريس ويسقط لتكون النهاية.
سألت الراحل ثروت أباظة: ألم تكن تخشى على نفسك من هذا العمل؟ قال: كتبت القصة ولم يحدث شيء وجاء الأبنودى ليضيف إلى الحوار إسقاطات أكثر جرأة.. لم أكن خائفا حقا. هذا ما قاله لى ثروت أباظة، وهو يتفق كثيرًا مع ما كتبه عنه أنيس منصور عندما قال: «كان ثروت أباظة الأصدق والأجرأ فى جيله».