أزمة المثقف المصري
ليس عنوانا جديدا بالمناسبة، ففي عهدي ناصر والسادات قرأت مقالات بنفس العنوان لكبار العقول وقتها، تناقش أزمة المثقفين في الوطن، ويبدو أن المعضلة لا تزال قائمة ومتمكنة بسبب الاختلاف، لا الخلاف، وهو ضرورى بطبيعته بين رؤية عقل وتطلعات وجدان من ناحية، وسياسات إدارة وتحديات واقعية من ناحية أخرى، فهل نقول الحق أم سيزعل البعض؟
هل تدرك الإدارة أن المثققف المصرى سلاح لا يجب عزله، أو تحييده، أو التضييق عليه؟ بل يجب تسخيره لخدمة الاهداف الوطنية، واستخدام طاقاته العقلية والوجدانية والابداعية لتكريس الانتماء وتقوية المناعة الوطنية في مواجهة حملات التسخيط الجارية بلا هوادة.
المثقف بطبيعة تكوينه العقلى، والوجدانى هو بناء ذاتي أعلى وأعمق وأشمل من ممتهن مهنة الإعلام الغوغائي، ممن ضيقوا على الناس حياتهم وأحدثوا شرخا عميقا بين إدارة تعمل وتنجز وتواجه الصعاب، تنجح وتخفق، تصيب وتخطئ، يمقتهم الناس ويريدون تغيير الوجوه!
المثقفون المصريون
كان المثقفون المصريون سندا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وسلاحا من أمضى الأسلحة، سواء كانوا من إرث الحقبة الليبرالية الملكية في تاريخ مصر، طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ والحكيم وسلامة موسي وأحمد لطفى السيد وعشرات عشرات من لآلئ العقل والابداع وقتها، بحضورهم المادي أو وبما تركوه من فكر واجتهادات نفخر بها حتى الآن، أو ممن نبت وجدانهم القومي وتوهج مع ثورة يوليو ومواجهتها للقوى الاستعمارية وقتها، وكان عطاؤهم الفني والفكرى تعبيرا عن مد وطنى عارم.
وظف عبد الناصر مثقفي العهدين، الملكي والثورى التحررى وأغلبهم قوى اليسار، لتهيئة الناس لعملية التحول الاشتراكي، ومساندة قرارات التأميم وسيطرة الدولة علي وسائل الإنتاج، ولم يدرك مثقفو اليسار وقتها أن ما يجرى بدعمهم لتلك البرامج والسياسات هو ذاته رقابة على افكارهم وسيطرة على عقولهم وقيد على ألسنتهم، حتى وقعت هزيمة يونيو 1967.
مثقفو مصر في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، كانوا اليمين، إذ انقلب على اليساريين الناصريين، بفعل تحوله من الاشتراكية إلى الانفتاح، وصفوه وقتها بالسداح مداح، ولقد أذاق المثقف المصري اليسارى المر للسادات وقت التجهيز لحرب اكتوبر، من التشكيك إلى السخرية، إلى بث اليأس.
ونشر الكاتب الراحل الأستاذ محمد حسنين هيكل مقاله الشهير تحية إلى الرجال، عن الأهوال التى ستواجه الجندي المصري قبل أن يتمكن من عبور قناة السويس، وهذا المقال بالذات إطار صواب السادات والمؤسسة العسكرية وقتها لأنه كان دعوة للتيئيس!
قضي السادات على مثقفي ناصر اليساريين، وكان يسميهم الافنديات، بإطلاق مثقفي كتب التراث الصفراء، من الإخوان، واليمين المتطرف، وهؤلاء بدورهم قضوا عليه واغتالوه في عز زهوه بعيد النصر في يوم أسود من اكتوبر عام 1981.
حكم الإخوان
ومع الموجات الإرهابية التى ضربت البلاد في السنوات العشر الأولى من عهد الرئيس الراحل حسنى مبارك، توحدت قلوب واقلام المثقفين المصريين كافة، وكان لكبار الكتاب من الصحفيين والاعلاميين الزاخرين بالعلم والمعلومات والثقافة، أثر بالغ في الحشد الشعبي للنظام في مواجهة إرهاب يفجر القنابل في شوارع القاهرة عيانا بيانا.
ومع مراجعات الإرهاب والجماعة الاسلامية بعد مذبحة حتشبسوت وإعلان الجماعة التوبة، استقرت الأوضاع واستمرت في سكون منذر، حتى تمكن الإخوان من جديد من ادارة اقتصاد مواز يمكن وصفه باقتصاد بقالة والبان ومدارس وموبيليا وتحويل أموال وصرافة وتحفيظ قرآن، وجلسات تحفيز سرية.. وكما أطلقهم السادات فأكلوه، أطلقهم مبارك فأكلوه وأكلونا.. ولما أكلونا وحكمونا، كان حكمهم، ويا للصدمة بمباركة نخبة من أحط المثقفين المصريين وعيا!
تلك حقبة اختلطت فيها مفاهيم الليبرالية بالانتهازية السياسية، بالولاءات الخارجية، نتج عنها سقوط النخبة المثقفة كلها سقوطا مدويا، وفقدت مصداقيتها عند الشعب الواعي، بل تصدت عقول واقلام مثقفة مضادة تنعي عليهم خيبتهم وغفلتهم او تآمرهم مع الخارج ومع حكم المرشد.
وطوال عام من حكم الإخوان، أدرك الذين جاءوا بهم أنهم على قوائم الشنق والسجن والاغتيال، وكعادة هذا النوع من المثقفين، وفيهم إعلاميون وصحفيون، بادروا بالانضمام إلى طليعة وطنية من أفضل مثقفي الوطن وأعظمهم وطنية، اعتصموا جميعهم على مداخل وداخل وزارة الثقافة، يرفضون حكم الإرهاب والظلام ويتحدون نكرة عينوه وزيرا لثقافة مصر فرفضه مثقفو مصر الحقيقيين.
ذلك هو مشوار المثقف المصرى فماذا كان جزاؤه في العهد الإدارى الحالى؟ هل استفادت منه الدولة؟ هل لديه ما يقدمه الآن، بل هل يستطيع، بل هل يرغب؟ تلك ثلاثة أسئلة مفتوحة للنقاش.