درس آخر من تركيا للعالم.. مصلحتي أولا
تلقى الساسة في العالم العتاة الثقال، المخضرمون منهم، والهواة المبتدئون، دروسا في البراجماتية الواقعية، وبعبارة أخرى في النفعية، وتحقيق الهدف في مقتل! جاء الدرسان من موسكو، ومن أنقرة، من بوتين، ومن رجب طيب أردوغان..
بالعقل وبالحكمة، وربما بالاتفاق، احتوى بوتين تمرد فصيل مرتزق يعمل لحساب الجيش الروسي وحقق له انتصارات ضخمة في باخموت الاستراتيجية الأوكرانية، ولا يزال العالم يحاول حل اللغز المثير، كيف يعفو بوتين عن بريجوجين، والأخير يسحب قواته، ويسافر إلى بيلاروسيا، وبعد خمسة أيام من التمرد واحتوائه، تتسرب أول أمس أخبار مدهشة غريبة عن لقاء يجمع بوتن بقائد قوات التمرد..
دروس موسكو وأنقرة
فهل كان التمرد مخططا له داخل موسكو؟ وما هي جدواه؟ حتى الآن لا يزال العائد السياسي والعسكري من هذا الانشقاق، ثم الاحتواء السريع له وخضوع بريجوجين خضوعا كاملا، ثم تفاصيل اللقاء الذي سرب الكرملين نبأ موجزا عنه.. كل هذا يبقى لغزا، لكن العبرة الحقيقية هي ادارة الموقف وفق المصالح الأساسية لدولة كبرى تخوض حربا ضد 31 دولة أعضاء الناتو! كان ذلك قبل أسابيع ثلاثة تقريبا.
ثم تلقى الساسة في منطقتنا، درسا بليغا من أنقرة، فبعد رفض عنيد من أردوغان لانضمام السويد إلى حلف الناتو، وبعد مساومات ومفاوضات، حصلت أنقرة على ما أرادته.. تشدد أردوغان إلى أقصى درجة، وهو عضو في الناتو، ثم هو صديق مقرب من بوتين، ثم هو له مطالب..
أبرزها اعتقال أعضاء مناوئين له في حزب العمال الكردستاني، وهو يريدهم، يقيمون في السويد، ثم استغل رغبة بايدن في ضم السويد بأي ثمن، فحصل على ضمانات بتزويد بلاده بالطائرة F16 ولقد بدا منشرحا راضيا في المؤتمر الصحفي العالمي أمس مع الناتو وقائده والأعضاء.
لم يفكر أردوغان في النتائج المترتبة على فتح جبهة للناتو طويلة جدا مع روسيا، لم يفكر في غضب موسكو، وأن أنقرة حققت مصالحها على حساب أمن موسكو، فكر فقط في المكاسب التى أرادها طويلا وأخضع الغرب لها.
بموافقة أردوغان على ضم السويد لحلف يحارب روسيا بالوكالة، خسر ثقة بوتين، وكان أردوغان وسيطا مأمونا. في اتفاقات توريد الحبوب للعالم، وفي تبادل الأسرى، وفي التفاوض لإنهاء الحرب. موقف أردوغان ألقى به كاملا في خندق واشنطن، وهو ما جعل الكرملين يصدر بيانا مقتضبا أكد فيه أنه لا توجد خطط حاليا للاتصال مع رئيس تركيا رجب طيب أردوغان.
المفارقة أن أردوغان وهو بارع في النفعية السياسية، قادر بالفعل على احتواء استياء موسكو، وسيجد وسيلة نفعية تجعل المسافة بين موسكو وانقرة أقصر، وذات جدوى.
موقف رئيس تركيا لا غبار عليه، بالعكس، فلقد عمل بقوة ومهارة على تحقيق مصالح تحفظ أمن بلاده، كما مارس مع الغرب دور الرافض القوي صاحب المطالب، بوسعه أن يقبل وبوسعه أن يرفض، أي لا يقبل إملاءات إلا مصالح تركيا.
شيء من هذا تمارسه القاهرة، على الاقل فى التعامل مع رئيس وزراء إثيوبيا، فهي تستضيفه، وتتحاور معه، ويتصافح الرئيس معه، ويستقبله، صابرا، ونحن نكظم غيظنا، لكنها أمور الدولة تدار بعقل وحكمة وبراجماتية مباشرة..
ونتابع..