دروس وذكريات (1)
في حياة كل إنسان محطات فارقة وذكريات لا ينساها أبدًا مهما تقادم الزمن ومهما مرت السنون وانقضت الأعوام.. ومن تلك الذكريات التي علقت بذهني رغم مرور عشرات السنين عليها ما عشته في كُتَّاب القرية الذي وضع أول لبنة في فكري وتفكيري حيث كتبت ككل أبناء جيلي حروف الهجاء على لوح بأقلام من البوص ومدواة الحبر وحفظت فيه آيات وسورًا من القرآن الكريم أنارت عقلي وفتحت قلبي لنور العلم..
ومن الكُتّاب انتقلت للمدرسة الابتدائية بقريتي بيشة قايد بالشرقية حيث تعهدني فيها بالرعاية والتعليم والتهذيب معلمٌ فاضلٌ وأبٌ كريمٌ من خيرة التربويين في زماننا وهو المرحوم الأستاذ محمد العدلي الذي كان يدرِّس لنا كل شيء من اللغة العربية وحتى الحساب..
وعلى يديه عرفتُ معنى التربية الحقيقية التي تحرص أولًا على غرس القيم الأخلاقية الرفيعة في النفوس قبل تقديم المعلومة أو المحتوى الدراسي.. كما كان العقاب البدني آخر ما يلجأ إليه المعلمون، ويأتي على قدر الخطأ للإصلاح والتهذيب وليس التعنيف والإيلام.
ورغم أن مدرستي الابتدائية كانت تجاور إحدى الترع لكنها كانت تضم فناءً واسعًا يمارس فيه نشاطا رياضيا كان أيامها مادة أساسية، كما كانت الموسيقى التي غرست فينا الخيال والمشاعر الرقيقة التي استقبلنا بها الحياة في تلك السن الغضة.
ذكريات مدارس زمان
وبعد الابتدائية قضيت 6 سنوات في تعليمي الإعدادي والثانوي بالزقازيق التي كنت أقطع إليها يوميًا 6 كيلو مترات ذهابًا ومثلها في الإياب على طريق غير مرصوف مستعينًا بدراجة اشتراها لي أبي يرحمه الله الذي كان موظفًا يقتطع من قوت الأسرة لينفق على تعليمي أنا وإخوتي..
وفي الشتاء حين يداهمنا المطر كنا نحمل الدراجات على أكتافنا بدلًا من أن تحملنا هى على عجلاتها.. وكانت مدرسة أحمد عرابي الإعدادية من أفضل مدارس المحافظة وقتها.. كما كانت الثانوية العسكرية أقدم مدارس الثانوي بالزقازيق وكان ناظرها جودة بك يأتينا من القاهرة يوميًا وكان يمتاز بالحسم والحزم والالتزام بالنظام.
وفي المراحل الثلاث كنا نحب الذهاب للمدرسة؛ ذلك أنها كانت ملاذًا نجد فيه أنفسنا ونمارس فيه هواياتنا وأنشطتنا الرياضية والموسيقية التي كانت تحرص عليها وزارة التربية والتعليم وقتها ولا تتهاون مع أي تقصير في أدائها على أفضل صورة ممكنة..
وكان المدرسون يتأنقون في مظهرهم ويحرصون على ارتداء بذلة كاملة والظهور في أبهى صورة؛ فقد كانوا قدوة بحق، يبذلون أقصى جهدهم لاستيعاب واحتواء تلاميذهم وتوصيل المعلومة لهم حتى يفهموها وتثبت في عقولهم وذاكرتهم.. ومن ثم كان الغياب أو الانقطاع عن الدراسة أيامها أمرًا نادرًا وربما مستحيلًا فقد كانت المدرسة مكانًا محببًا لقلوب طلابها.
أما الدروس الخصوصية فلم نكن نسمع عنها في تلك الأيام ولا وردت في قاموسنا حينها.. وكانت هناك مجموعات تقوية مجانية لمن يريد من الطلاب ضعاف المستوى الدراسي.. والمدهش أن مدارس ذلك الزمان كانت عامرة بمعامل الكيمياء والأحياء والمسارح وحجرات الاقتصاد المنزلي التي تقوم بتصنيع الزبادي وتشكيل الرسومات وتقديم العروض الفنية والأنشطة وتحتضن الموهوبين والمبدعين من الطلاب..
وهو ما يفسر لنا لماذا تخرجت فيها قمم وصلت للعالمية مثل أحمد زويل ومجدي يعقوب وفاروق الباز ومصطفى مشرفة وغيرهم من النجوم الزاهرة الذين كانوا خير سفراء لمصر في الخارج.. كما ظهر رواد في الفن أبدعوا غناءً وتمثيلًا ورسمًا وهو ما جعل مصر في مصاف الدول العظمى بفضل قواها الناعمة.