الشعراوي.. الوزير السياسي والداعية المجدد!
ما أجمل أن نحتفي برموزنا العظام، فذلك يبقيهم أحياء في ذاكرة الشعوب المتعطشة دومًا لمحاكاة القدوة الحسنة.. ومن هؤلاء شيخنا الجليل الشيخ الشعراوي الذي تحل ذكرى رحيله الخامسة والعشرين بعد ساعات.
كان إمام الدعاة رحمه الله هو أبرز المجددين في تفسير كتاب الله كما قال فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وكان يفسر القرآن وكأنه يبعث الحياة في الحروف والكلمات، فترتسم في عقل المستمع وقلبه صورة حيةً مبسطةً لا يحتاج إلى مجهود كبير لفهمها واستيعابها.
كان الشيخ الشعراوي ولا يزال الحاضر الغائب في وجدان الأمة، رمزًا للعلم والتدين والوسطية والواقعية والموسوعية؛ يربط العلم بالدين بالمصالح المرسلة، يمتلك ناصية اللغة، وطائفةً واسعة من المعارف في كل مجال؛ وجاءت خواطره حول القرآن لونًا فريدًا من الفهم الواسع لكتاب الله ممزوجة بنفحات العارف بربه.
ومن ثم فقد وصلت لكل الناس؛ عامتهم وخاصتهم؛ عالمهم وجاهلهم.. وجد فيها الجميع ما ينشدونه وما يتطلعون إلى معرفته في دينهم وكتاب ربهم، كان وسطًا يلفظ كل تشدد في الدين، ولم يهادن جماعات التطرف ولا سكت عن قول الحق مهما يكن مرًا.
الشيخ الشعراوي رحمه الله حين تولى أو بالأحرى وُلِّى وزارة الأوقاف لم يعرف عنه أنه سعى لهذا المنصب، بل إن المناصب كلها سعت إليه وتشرفت بقبوله لها فقد كانت قناعته أن من سعى إلى شيء وُكِّل به ومن دُعِى إلى شيءٍ أُعين عليه.
ومن طرائف إمام الدعاة أن الرئيس الراحل أنور السادات حين سأله وهو وزير للأوقاف وقتها: هل صحيح يا شيخ شعراوي أنك لا تجلس إلى مكتبك؛ فرد عليه بدعابة لا تخلو من معنى: نعم.. حتى يتسنى لي رؤية الناس ذوي الحاجات الذين يقصدونني كوزير مسئول.. ثم أردف: وإذا رفدتموني.. أقول يا فكيك!
هذا هو رد الوزير الواثق بنفسه، غير الحريص على الجاه ولا السلطان، لإدراكه أن الوزارة وزر ثقيل، وعبء جسيم، وليست كما يظنها كثيرون وجاهة ونفوذًا ومغنمًا.
وطنية إمام الدعاة
كان إمام الدعاة ملاذًا يأوي إليه أفئدة الناس وتسارع إليه وسائل الإعلام تذيع أقواله وآراءه كما استكان الناس لتفسيراته وحبه لوطنه واعتزازه بمصريته التي صارت مضرب الأمثال حين قال ردًا على من تطاول على مصر: مصر الكنانة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلها فى رباط إلى يوم القيامة، من يقول عن مصر إنها أمة كافرة إذن فمن المسلمون.. من المؤمنون.
مصر التي صدرت الإسلام إلى الدنيا كلها، صدّرته حتى إلى البلد الذي نزل فيه الإسلام، هي التي صدرت للدنيا كلها علم الإسلام.. أما دفاعًا عن الإسلام فنعود إلى التاريخ.. من الذي رد همجية التتار عنه؟ إنها مصر، من الذي رد هجوم الصليبيين عن الإسلام والمسلمين؟ إنها مصر، وستظل مصر دائمًا رغم أنف كل حاقد أو حاسد أو مستغِلٍ أو مستغَلٍ أو مدفوعٍ من خصوم الإسلام هنا أو خارج هنا.
إمام الدعاة كان عالمًا بالدين، متبحرًا في التفسير لكن ذلك لم يمنعه أن يكون وزيرًا سياسيًا، يدرك أهمية التواصل والتفاعل مع الناس الذين لم يكن بينه وبينهم حجاب ولا وسيط؛ بحسبان المسئول راعيًا ومسئولًا عن رعيته.. يقدر أهمية الرأي العام، وخطورة تشكّل صورة ذهنية مغلوطة عن المسئول-أي مسئول- لدى الناس، وهو ما يثير سؤالًا: أين يقع الرأي العام في اهتمامات المسئولين..
وكم وزيرًا يدرك أن مهمته سياسية بالأساس، تقوم على امتلاك رؤية وحس سياسي والإلمام بالخطوط العامة لمقتضيات الوزارة ثم يترك مهمة التنفيذ والانشغال بالتفاصيل لمن هم تحته من التكنوقراط الذين هم أهل التخصص والجدارة.
وظنى أنه لو توفرت الإرادة لدى المسئولين لانتهى كثير من مشاكلنا المزمنة.. ولزادت ثقة الناس في الحكومة.. هذا الالتحام لن يكلفها أموالًا، ولا يحتاج لدراسة جدوى.. فقط يحتاج إلى عقل سياسي وهمة عالية ورغبة حقيقية في الإنجاز.
رحم الله الشيخ الشعراوي.. ونفعنا بعلمه ورؤيته واجتهاده وعلمه الذي لا يزال نبراسًا يضيء طريق السالكين.